جانبي فروقة
«مفارقة غوتنبرغ» للكاتب جيف جارفيس تسلط الضوء على الفترة الانتقالية في تاريخ الاتصال البشري التي بدأت مع يوهان غوتنبرغ واختراعه لآلة الطباعة في القرن الخامس عشر ميلادي التي تعتبر علامة فارقة في نشر الكلمة وتوزيع المعرفة والوصول إليها. هذه الفترة التي امتدت من القرن الخامس عشر وحتى ظهور الراديو والتلفزيون في القرن العشرين، شهدت سيادة الكتاب والصحيفة كمصادر رئيسية للمعلومات. اليوم، مع تراجع عصر الطباعة، يرى بعضهم أننا نواجه حقبة جديدة، حيث تتدفق المعلومات بحرية أكبر ويسهل الوصول إليها عبر الإنترنت والتكنولوجيا الحديثة وخاصة الذكاء الاصطناعي.
و يضيف جارفيس أن أحد الدروس المستفادة من عصر جوتنبرغ هو أن التقنية تتلاشى والتكنولوجيا تصبح مملة، وعندما تصبح مملة فإنها تصبح مهمة. لأننا حينئذ نقبلها ولا نعتبرها تكنولوجيا، لذلك من المهم النظر إلى التكنولوجيا والإنترنت كشبكة إنسانية. ويوضح جارفيس أنه حتى آلة الطباعة واجهت نفس القدر من الشك والقلق الذي يواجهه الذكاء الاصطناعي التوليدي اليوم لأن مصدرها لم يكن واضحا فيمكن لأي شخص أن يطبع كتيبا تماما كما يمكن لأي شخص اليوم أن ينشئ تغريدة أو منشورا أو مدونة دون معرفة مصدر المعلومة، ولكن حسب جارفيس فإن من أهم المنجزات أن وسائل التواصل الاجتماعية اليوم أعطت صوتا لجميع أفراد المجتمع على اختلاف عرقهم ودينهم وفكرهم ومراكزهم. ويحذر جارفيس أنه علينا أن نعترف بالضعف البشري والفشل الذي نجلبه إلى هذه التقنيات (الذكاء الاصطناعي) ليس لأن هذه التكنولوجيا خطيرة بل يمكن أن نكون نحن خطيرين معها، ويطرح السؤال هل يمكن التحكم بها حيث يسعى اليوم الاتحاد الأوروبي ومناطق أخرى لإيجاد أفضل السبل لتنظيم الذكاء الاصطناعي ويستنتج قائلا: بدلا من التركيز على كيفية التحكم في الذكاء الاصطناعي لا بد من جمع الناس معا للحكم على كل من الإنترنت والذكاء الاصطناعي من خلال عدسة إنسانية، فالذكاء الاصطناعي هو آلة أصبحت قادرة على فهمنا وبدأت تتخذ طبيعة بشرية، وبالتالي ما نحتاجه هو أخلاقيات وعلم نفس وتاريخ العلوم الإنسانية في التعامل معها.
طورت مؤخرا شركة Salesforce مؤشر الاستعداد لدول آسيا والمحيط الهادئ (Asia Pacific) حيث يقيس استعداد 12 دولة (منها الهند واستراليا والصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية) في هذه المنطقة للذكاء الاصطناعي حيث إن تطوير الذكاء الاصطناعي يحتاج إلى أسس مؤسسية وهيكليتها التنظيمية والأخلاقية حيث يرشد ويقيس هذا المؤشر الخطوات اللازمة لانتهاج سياسات أفضل تجاه الذكاء الاصطناعي وأتمنى أن نرى تطوير مثل هذا المؤشر قريبا لدول الشرق الأوسط وإفريقيا أيضا.
يعتقد بعض الخبراء الذين يملكون نظرة إيجابية بأن عصر الذكاء الاصطناعي سيقودنا إلى عصر إنسان مضاعف القوة حيث إن الذكاء الاصطناعي سيكون معززا للإنسان لا محاربا له لأن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ببساطة تعزز المهام الإدراكية للآلة التي ستعزز بدورها قدراتنا.
وفي أروقة واجتماعات منتدى دافوس 2024 الذي عقد مؤخرا تردد مصطلح الذكاء الاصطناعي ولكن النقاشات الحقيقية كانت تتناول الاندماج الرقمي والفجوة الرقمية بين الدول وإمكانات وتطوير تكنولوجيا الكم والفضاء وتطور أنظمة الرعاية الصحية والتقدم الجاد في التعاون العالمي بشأن الحوكمة وذلك للاستفادة من التكنولوجيا لتعزيز رحلة التطور الإنسانية، ومع قيام الذكاء الاصطناعي بأتمتة المزيد من المهام، سيحتاج العمال إلى أن يكونوا قادرين على التواصل بشكل فعال مع بعضهم بعضا ومع الآلات. حيث أصبح التفاعل وجهاً لوجه وما يسمى بـ «المهارات الناعمة» (Soft Skills) مثل الأخلاق والتواصل والنزاهة والشفافية أمرًا بالغ الأهمية تحاول كل الشركات والمؤسسات أن تبني استراتيجياتها حولها.
أجرت منظمة العمل الدولية وشركة أكسنتور دراسة حديثة لتقييم تأثير الذكاء الاصطناعي الإبداعي ووجدت أنه يمكن أن يغير 40 % من إجمالي وقت العمل ورفع الكفاءة الإنتاجية، وكمثال واقعي على ذلك قامت شركة تليفونيكا البرازيلية بإدماج حل الذكاء الاصطناعي في مساعدة موظفيها على الاستجابة بشكل أسرع وأجود على الاستفسارات لمالكي أبراج الشبكات حول عقود إيجار العقارات والنتيجة كانت مذهلة فقد أدى الحل إلى تحسين وقت استجابة الموظفين بنسبة 30 % وزيادة رضا المستخدم بنسبة 66 %.
قال لي مرة صديق إن أمريكا تبتكر (Innovate) وأوروبا تنظم (Regulate) وفعلا في الساحة العالمية للتكنولوجيا والابتكار يظهر تباين واضح بين نهجين مختلفين حيث إن الابتكار يعتبر محركا رئيسيا للنمو الاقتصادي في أمريكا وتعمل على تشجعيه دون قيود، بينما يأخذ دائما الاتحاد الأوربي مقاربة موازية ومختلفة تركز على التنظيم وحماية البيانات والخصوصية وإصدار لوائح منظمة وصارمة تضمن الحماية للمستهلكين، وتضمن أيضا الحفاظ على المنافسة العادلة وتتمثل في (GDRP) اللائحة العامة لحماية البيانات والتي تعد من أقوى لوائح الاتحاد الأوربي في هذا المجال.
استضافت مؤخرا سلوفينيا المنتدى العالمي الثاني حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي تحت عنوان « تغيير مشهد حوكمة الذكاء الاصطناعي» تحت رعاية اليونسكو بين 5 و6 فبراير 2024م ومن أهم نتائج المنتدى توقيع كل من GSMA، وINNIT، وLenovo Group، وLG AI Research، وMastercard، وMicrosoft، وSalesforce، وTelefonica اتفاقية رائدة لبناء ذكاء اصطناعي أكثر أخلاقية. وستعمل الشركات على دمج قيم ومبادئ توصية اليونسكو بشأن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي عند تصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي ونشرها. ويعد هذا أول تحالف بين القطاعين العام والخاص، وتلزم هذه الاتفاقية في كرانج سلوفينيا الشركات بلعب دورها الكامل في ضمان حقوق الإنسان في تصميم وتطوير وشراء وبيع الذكاء الاصطناعي وسيبذل هذا التحالف كل ما يمكن من أجل تلبية معايير السلامة وتطوير لوائح تنظيمية تحديد الآثار الضارة للذكاء الاصطناعي واتخاذ التدابير المناسبة لتخفيف آثارها.