شعبان مصطفى قزامل
الخيال بداية كل شيء.. انظر إلى أي اتجاه حولك، وشغل لبضع ثوانٍ عقلك فيما تقع عليه عيناك، ستجده كان لوقت قريب ساكناً في قصر الخيال البعيد، قبل أن يتهادى فوق بساط الريح، ويحط رحاله متشكلًا ومنخرطًا ومجسدًا لتراه أمام ناظريك عيانًا بيانًا. الأساطير القديمة والخرافات والحكايات الشعبية تبدأ بالخيال وتزخر بالخيال، ثم تلهمنا بكثير من الاختراعات وتدلنا على عديد الاكتشافات.. فنحن نحيا بمخيلتنا ونتأثر بها أكثر مما نحيا بعقولنا.. فإذا كان المنطق يأخذنا من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، فإن الخيال يأخذنا إلى كل مكان.. لِمَ لا؟، وهو الذي يحكم بجبروته وهيمنته العالم. فإذا أردت مثلًا رؤية الوديان، فإن خليل جبران يرشدك إلى أن تصعد قمة الجبل، أما إذا كنت ترغب في رؤية قمة الجبل فعليك أن تكون فوق السحاب، ولكن إذا حاولت فهم السحاب فاغمض عينيك فقط وفكر وتخيل وأطلق لخيالك العنان.. ففي السماء ما يعلو سقف عقولنا وعلى الأرض أشياء أكثر مما نحلم به.
يقول المنطق: كل الطيور لها، ريش والعقاب طائر.. النتيجة إذًا العقاب له ريش. بينما يقول الخيال : أنا ربيع دائم، لا أعرف حدودًا، لا أصنع القلاع في الهواء، بل أحول الأكواخ إلى قلاع في الهواء. ألم يقل آينشتاين «الخيال أهم من المعرفة».
«إيلون ماسك» و»فهد العمار» من أولئك الذين يحلمون نهارًا ويعرفون أشياء كثيرة تفلت من أولئك الذين يحلمون فقط في الليل، ما يجمعهما تحدى كل المعايير وتعدى كل التوقعات والمحاذير، بأفكارهما الثورية ومشاريعهما الاستثنائية التي لم يسبقهما إليها أحد.
تعرفت إلى الدكتور فهد بن إبراهيم العمار في الخريف الفائت، عندما زارني بقريتي في ريف المنصورة بالمحروسة، وهو شقيق الدكتور الرائع عبد الله العمار مدير شركة (شل والجميح) الأسبق.. من حسن حظي أننا تقابلنا في الرياض أثناء عملي بصحيفة الجزيرة وكان بيننا عدة لقاءات فكرية، وهو الذي دَل الدكتور فهد عليّ ووجهه لزيارتي وصلاً للود والأخوة، أيضًا شقيق الدكتورة حصة العمار الكاتبة والمترجمة المعروفة، وعم الكاتب الشاب الأروع إبراهيم عبد الله العمار الذي تزاملنا سوياً لسنوات طوال بالصحيفة.
أبهرني الدكتور فهد، بأفكاره المذهلة ومشاريعه الخيالية، ظننت للوهلة الأولى أنها ربما تكون مجرد شطحات من هذا الضيف البسيط المتواضع الذي يرتدي بنطالًا رياضيًّا وتيشيرتًا عاديًّا كالذي يرتديه عامة الناس، لا تظهر عليه أي مخايل أو علامات تدل على مكانته العلمية والاجتماعية، وفي ذهني القول المأثور من لديه خيال بدون علم كمن له أجنحة بدون أقدام أو الذي يحلم بالطيران ولا يجيد حتى السباحة»، لكن المفاجأة أني وجدت الرجل بعد حوار قصير دار بيننا يحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة من الولايات المتحدة الأمريكية، ولديه من المؤهلات العلمية ما لا يتوافر إلا للقليل القليل.
لا أدري بالضبط ما الذي جعلني أربط بينه وبين إيلون ماسك.. هل هي الأفكار شبه المستحيلة، أم الابتكارات التي أقل ما توصف به أنها لا تتعدى أن تكون أضغاث أحلام يقظة مجنونة.
لكن ويا للعجب!! لقد وجدت أفكار ماسك طريقها ورأت النور وجعلت منه أغنى شخص على وجه الأرض، بينما أفكار العمار التي لا تقل بريقًا وألمعية في عبقريتها وجنونها عن عبقرية وجنون أفكار ماسك، ما زالت مخطوطة على الورق، حبيسة الأدراج تحاول البحث عن سبيل لتنفيذها على أرض الواقع، ورغم أنها أفكار أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع إلا أنها قابلة للتطبيق وتنتظر خروجها إلى الميدان. الخيال كما نعلم أبو الاختراع كما أن الحاجة أم الاختراع.
بغض النظر عن آراء الناس في ماسك، وكونه شخصًا يبدو غريب الأطوار، فإنه يرى نفسه منقذًا للبشرية بمشاريع فريدة وصفقات تتسم بالغرابة ويعشق أن يكون تحت الأضواء وحديث وسائل الصحافة والإعلام.. لقد وصفته مجلة تايم بالجنون، عندما أعلنت سنة 2021، فوزه بلقب شخصية العام، ونشرت صورته على غلاف العدد المزدوج للمجلة في الفترة من 27 ديسمبر 2020 إلى 3 يناير 2021، وكتبت عنه: «هذا الذي يحلم بالمريخ وهو يمشي على الأرض، عبقري، صاحب رؤية صناعي، هجين مجنون من توماس إديسون بي تي بارنوم، أندرو كارنيجي وواتشمن دكتور مانهاتن».
أما الدكتور فهد فإنه إنسان هادئ رزين لا يحب الشهرة شأنه شأن كبار العلماء. جعل جل همه خدمة أمته ووطنه، مؤثرًا المصلحة العامة على مصلحته الشخصية. خجله وحياؤه يقفان عائقًا ويحولان دون معرفة الناس به، ومن ثم تبني الجهات المعنية لأفكاره القادمة من المستقبل والقادرة على حل المشكلات المزمنة، وتمهيد الجادة للغد المشرق. القاسم المشترك بين ماسك والعمار، أن كلاهما صاحب بصيرة يفكر خارج نطاق التفكير النمطي التقليدي، ولا يتبع في أعماله الاتجاه السائد، بل يركز على إيجاد ابتكارات جديدة وأفكار استثنائية غير مطرقة تشرع الأبواب للمزيد من الرفاهية والسعادة.
بينما أحدث ماسك تغييرًا جذريًّا في صناعة السيارات الكهربائية (تيسلا)، وأشعل ثورة في الطاقة النظيفة والمستدامة بتطوير محطات الطاقة الشمسية وصناعة البطاريات، وتفوق في إنشاء نظام الأنفاق وتصنيع قطارات فائقة السرعة بشركته المملة (بورنج)، وكذلك كبسولات (هايبرلوب) داخل أنابيب مفرغة من الهواء، تختصر المسافات وتجري بسرعات تصل إلى 1200 كيلومتر في الساعة. فإنه أسس شركة (نيورالينك) لتعزيز الإدراك من خلال أجهزة قابلة للزراعة في أدمغة البشر تعالج الاضطرابات العصبية والجلطات والأمراض الأخرى، وأسس أيضًا شركة (ستارلينك) لإطلاق كوكبة من الأقمار الصناعية حول الأرض توفّر شبكة إنترنت فضائي فائقة السرعة، وللشركة في الوقت الحالي نحو 4000 قمر صناعي، أكثر من أقمار جميع الدول والشركات الخاصة مجتمعة، توفر الإنترنت بكميات كبيرة في مدار أرضي منخفض وأيضًا خدمات المحمول، أكثر من 56 دولة حتى الآن. وقد نعت إيلون هذا المشروع بأنه إعادة بناء الإنترنت في الفضاء». مبديًا رغبته في أن يصل إلى المريخ ويؤسس مستعمرة بشرية دائمة على الكوكب الأحمر خلال هذا القرن (القرن الحادي والعشرين، وإرسال صوبة زراعية صغيرة عن طريق شركته الفضائية (سبيس إكس).. ويوماً بعد يوم تسيطر شركاته على المزيد من الاتصالات والإنترنت والكهرباء وإمدادات الطاقة والنقل، والبنية التحتية. أما العمار فيقدم أفكارًا بمشروعات مبتكرة وغير مسبوقة لصحن الطواف تخفف إن لم تقض على زحام الحرم المكي، وتحل مشكلة التعارض بين الطائفين والمصلين وتوفر الراحة للحجاج والمعتمرين. كما يقدم ابتكارًا عبقريًّا أشبه بالخيال، ولا نبالغ إذا وصفناه بالمذهل كابتكارات ماسك؛ من أجل تلطيف جو الرياض في فصل الصيف، وتخفيض درجة حرارة المدينة بالكامل على اتساعها بدون استهلاك أي كهرباء، ومن ثم التخفيف عن كاهل المواطنين ماديًّا ومعنويًّا، والتعظيم لوسائل الراحة لجميع سكان العاصمة، وهو مشروع يمكن تنفيذه وتعميمه في كافة المناطق والمدن السعودية مما يوفر مليارات الدولارات على الدولة كل عام.
وإلى جانب هذا التكييف العجيب لمدينة بحجم الرياض، تأتي فكرته التي يسميها كاسرات الصوت التي تسمح لأصوات مكبرات المساجد العالية بالوصول فقط إلى المنازل البعيدة، بينما تقل حدتها رويدًا رويدًا كلما اقتربت المنازل من المساجد، وهي حل خارج الصندوق لمشكلة يشكو منها بعض سكان البيوت المجاورة لدور العبادة.
ليس هذا فقط ما بحوزة الدكتور العمار، بل الأعجب والأغرب لم يأتِ بعد؛ فلديه فكرة ربط الأودية القديمة المغمورة في أعماق صحاري المملكة بأودية جديدة يتم حفرها لتشكل نهرًا صناعيًّا يبدأ من جدة وينتهي في الكويت وعند الحدود مع قطر، تزوده أنابيب تمتد تحت مياه البحر الأحمر تتصل ببحيرة فيكتوريا في القارة السمراء، تغذي هذا النهر بالماء العذب الزلال. كذلك قام بتصميم انسيابي باذخ الأناقة والجمال لمطار مدينة شيانج ماي التايلندية أثناء زيارته لتايلند أوحت إليه به مبانيها ومعابدها الأثرية.
يبقى أن أقول إن كثيرًا من إنجازات العلم الكثيرة، التي باتت جزءًا عاديًّا من حياتنا اليومية، إنما كانت من وحي أفلام وأدب الخيال العلمي، وأن الحدود بين الخيال العلمي والواقع أضحت تتلاشى بسرعة بداية من الابتكارات الطبية إلى التقدم الهائل في الحوسبة والنقل، التكنولوجيا تعد بتغييرات غير مسبوقة، والذكاء قادر على تحويل مفردات الخيال إلى معطيات واقعية، فالمخترع يمسك بالمعطيات ويحولها إلى شيء قابل للصناعة، والمهندس يجعل من هذه الصناعة أمرًا ممكنًا بتكاليف معقولة، ورجل الأعمال يجمع المال من المستثمرين لتحويل الأحلام إلى واقع.
مخترع الهاتف المحمول مارتن كوبر، عزا اختراعه إلى جهاز «تي إس للاتصالات» في سلسلة أفلام ستار» «تريك التي عرضت عام 1966، وأجهزة كثيرة أخرى مثل جهاز تحديد المواقع عبر الأقمار الاصطناعية وتحديد الحركة عبر شرائح موجات الراديو والسيارة ذاتية القيادة والساعة الرقمية وغيرها، ظهرت أولًا في الخيال العلمي. كما يؤكد مات ستيفن، أن السفر عبر الفضاء والأقمار الاصطناعية كانا من بنات أفكار الخيال العلمي قبل أن يصبحا حقيقة علمية في عصرنا.