عبدالرحمن الحبيب
يلخص الغلاف الأمامي للطبعة الأصلية من كتاب بول كينيدي الذي حقق شهرة واسعة «صعود وسقوط القوى العظمى» الفكرة الشائعة بشأن الجغرافيا السياسية التي انتشرت بعد نهاية الحرب الباردة، حيث يحمل جون بول (البريطاني) علم الاتحاد وينزل عن قاعدة التمثال، وبجانبه يقف العم سام (الأمريكي)، وهو يحمل علم الولايات المتحدة، ويبدو عليه الكآبة إذ يتسلق خلفه رجل يحمل علم اليابان. صدرت الطبعة عام 1987 في وقت كان حينها توافق عالمي إلى حد كبير وكذلك في الثقافة الشعبية الأمريكية، وأيضاً في المجلات العلمية حول القوى العظمى، على أن اليابان ستدير العالم قريبًا. بينما في النسخة المتأخرة تعدلت الصورة، حيث يظهر البريطاني وهو يهوي من القاعدة، بينما الأمريكي يقترب من الحافة وخلفه الصيني يكاد يدفعه بيده وعلى يمينه عسكري روسي..
قبل أيام قررت الصين التي تجنى 160 مليار دولار سنوياً من صادراتها عبر ممر البحر الأحمر الملاحي الدولي، تحريك أسطول بحري نحو ذلك الممر الذي تعثر كثيراً مع تدخل عسكري حوثي منذ نوفمبر الماضي، وازداد مع مواجهات أمريكية بريطانية ضده لا تزال مستمرة. يرى الخبراء أن القرار الصيني يأتي لتأسيس وتعزيز الوجود العسكري الصيني بالمنطقة، واستعراض قوتها وإرسال إشارة لأمريكا مفادها أن الصين أصبحت قوة بحرية قوية لا يجب مواجهتها وأنها لا تخشى الظهور في مناطق صراع بعيدة عن مصالحها الإقليمية المباشرة.
في ظل التنافس المحموم بين أمريكا والصين، هل تقوم التجارة المتبادلة بينهما بتقليل أو زيادة مخاطر الأزمات الدولية؟ وكيف تحدد التجارة ما إذا كانت أمريكا ستحافظ على السلام أم ستذهب إلى الحرب؟ هذا ما يناقشه كتاب صدر مؤخراً لبروفيسور العلاقات الدولية ديل كوبلاند (جامعة فرجينيا) بعنوان «عالم آمن للتجارة» (A World Safe for Commerce) وعنوان فرعي «السياسة الخارجية الأمريكية من الثورة إلى صعود الصين».
يتتبع الكتاب كيف تنقلت الولايات المتحدة باستمرار، منذ تأسيس الدولة، من السلام إلى الصراع عندما تكون التجارة اللازمة للأمن القومي معرضة للتهديد..
وعندما وصلنا إلى نهاية الحرب الباردة، اعتقد كثيرون أن توسيع التجارة سيبشر بعصر من السلام. ومع ذلك، تجد أمريكا نفسها اليوم في مواجهة ليس فقط روسيا في أوروبا، بل أيضًا الصين في منطقة المحيط الهادئ الهندي، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية.
ينقسم علماء العلاقات الدولية حول ما إذا كان الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الدول العظمى يساهم في السلام أو الصراع، وذلك حسب توفر عوامل مختلفة تحدد تأثير هذا الاعتماد. ويرى كوبلاند أن التوقعات بشأن التجارة المستقبلية التي تؤثر على ما إذا كان من المرجح أن يؤدي الاعتماد الاقتصادي المتبادل إلى السلام أو الصراع تتأثر بما يعتقده القادة؛ فعندما لا يعتقدون أن أنماط التجارة المستقبلية ستكون مواتية لبلدانهم، فإنهم أكثر عرضة للانخراط في الصراع والمنافسة مقارنة عندما يعتقدون أن أنماط التجارة المستقبلية ستكون مفيدة لدولهم.
فما هي التوقعات في ظل التنافس الحاد بين القوى العظمى لا سيما مع توتر علاقة الغرب مع روسيا في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، وأزمة علاقات أمريكا مع الصين على خلفية اعتبار الأخيرة أن تايوان جزء منها؟ يقول كوبلاند: ليس واضحا ما هي مآلات هذه المنافسات، لكن ما يبدو واضحاً هو أن تفاؤل التسعينات عندما تلاقت السياسة مع التجارة بانسجام وأدى الاعتماد الاقتصادي المتبادل وسيادة القانون الدولي إلى ازدهار الاقتصاد والسلام بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، كل هذا قد ولى؛ وحل محله حروب باردة جديدة وحتى صراعات عسكرية.
يوضح ديل كوبلاند كيف تدفع التجارة الولايات المتحدة ومنافسيها إلى توسيع مناطق نفوذهم للوصول إلى السلع حتى في الوقت الذي يشعرون فيه بالقلق من إثارة انهيار العلاقات التجارية التي يمكن أن تتحول إلى صراع عسكري. ويستعرض الكتاب الحروب مع بريطانيا في عامي 1776 و1812 إلى الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، ويصف كيف تصارع قادة أمريكا مع هذا التوتر المتأصل، ولماذا تحولوا، بشكل كبير في بعض الأحيان، من السياسات السلمية ذات المنفعة المتبادلة إلى الإكراه والقمع والقوة من أجل زيادة السيطرة على التجارة الحيوية ومنع التدهور الاقتصادي.
يرى كوبلاند أنه من المطمئن أن أكبر قوتين عالميتين وهما أمريكا والصين أخذتا درساً مهما من الحرب الباردة: بأن كلا الجانبين لا يمكن أن يتحمل تصعيد التوتر إلى ما وصلت إليه أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962 (بين أمريكا والاتحاد السوفييتي). هذه أخبار جيدة، ولكن الخبر السيئ أو المقلق أن هاتين القوتين العظميين تحتاجان مواصلة ازدهارهما الاقتصادي لدعم قوتهما العسكرية ولضمان قدرتهما على مواصلة الاستقرار في بلديهما ومواجهة أي تهديد خارجي أو محاولة تخريب أو تدمير نظام الحكم.
لذا، تستمران في التوسع بالمجالات التجارية والاقتصادية بما يتخطى حدودهما، ودعم هذه المجالات بالقوات البحرية وحتى القدرات الهجومية.
الكتاب يكشف كيف يمكن للمنافسة التجارية أن تقود الولايات المتحدة والصين إلى مواجهة واسعة النطاق، ولكنه يوفر أيضاً الأمل في أن يتمكن الجانبان من العمل على تحسين توقعاتهما التجارية الشاملة وتعزيز الثقة اللازمة لتحقيق السلام والاستقرار على المدى الطويل.