د.عبدالله بن موسى الطاير
الرعب الذي يعيشه الساسة في المجتمعات الغربية من شبح الرجم بمعاداة السامية حقيقي، ففي هذا الشأن يؤخذ السياسي بالظن لا باليقين. يمكن لك أن تنتقد الملك تشارلز الثالث في بريطانيا بكل أريحية، كما أنه لا يوجد مُحرّم على الإعلامي أو السياسي، فالنقد جزء أصيل في الحراك اليومي. إياك ثم إياك أن تلمح مجرد تلميح ولو بكلمات غاية في التهذيب تنتقد أعمال إسرائيل الشنيعة، عندها ستوصم مباشرة بمعاداة السامية وتفقد ربما منصبك الإعلامي أو الأكاديمي أو السياسي. ليس هناك تفريق أبداً بين نقد تحليلي لواقع سياسي وبين التشكيك في المحرقة مثلاً، أو الانتقاص من اليهود، المصير واحد وهو محرقة التاريخ.
أزهر علي كان المرشح الرسمي لحزب العمال في إحدى مقاطعات مانشستر الانتخابية لكن الرجل أزعجه ما يجري في قطاع غزة، فتجرأ بالتلميح إلى أن إسرائيل استخدمت هجمات حماس في غزة كذريعة للغزو، وأن إسرائيل خططت «للتخلص من الفلسطينيين في غزة والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وعلى الرغم من عدم إدانة السيد أزهر علي بارتكاب أي مخالفات، فقد سارع حزب العمال إلى تعليق عضويته مؤقتًا على ذمة التحقيق في المزاعم الموجهة له.
سياسي مخضرم، ومُختلف عليه، اقتنص الفرصة بحزب مغمور، وكسب مقعد المقاطعة معلناً في أول عبارات له بعد الفوز التاريخي أن ذلك «من أجل غزة». إنه جورج جالاواي أو الذي يلقبونه بمراسل قناة الميادين ومذيع تلفزيون برس الإيراني. إنها غزة، فارزة وفارقة وسيكون لها تداعيات على التركيبة السياسية في المجتمعات الديموقراطية. ليس معاداة للسامية، وإنما لأنها قضية إنسانية لم يشهد التاريخ المعاصر لها مثيلاً، في وقت غدا فيه العالم غرفة انتظار واحدة وليس قرية صغيرة كما قيل سلفاً.
معاقبة السياسيين المعتدلين على تلميحاتهم أتى بأولئك الذين لا يخشون من نقد إسرائيل علانية وبصراحة، فذا النوع من السياسيين الجريئين لا ينتمون لأحزاب كبيرة كالعمال والمحافظين في الحالة البريطانية، أو الجمهوريين والديموقراطيين كما في أمريكا. لا أجزم إن ذلك قد يحدث تغييراً كبيراً في التوجهات السياسية وأن عدداً أكبر ممن يستطيعون انتقاد الممارسات الوحشية الإسرائيلية سيفوزون بالمقاعد البرلمانية ويشكلون السياسات الخارجية لبلدانهم لتكون أكثر صداقة للحق الفلسطيني وأكثر جرأة في نقد العدوان الإسرائيلي، ولكني أتوقع أن الغد الإسرائيلي لن يكون في مستوى أمسه من حيث مشاعر الشارع الغربي. ليست إسرائيل وحدها التي ستدفع الضريبة وإنما السياسيون والنظام العالمي الذي بدى عاجزاً ومنحازاً وغير قادر على تحقيق العدالة وفرض السلم والأمن.
وصفت منظمة يهودية بارزة فوز جورج جالاواي في الانتخابات الفرعية في روتشديل بأنه «يوم أسود» لليهود البريطانيين، ووصفت نائبة منسق الحملة الوطنية لحزب العمال إيلي ريفز جورج جالاواي بأنه شخص يؤجج الانقسام والخوف. لقد لعب جالاواي على وتر المشاعر الإنسانية المتأججة جراء ما يحدث في غزة، ولأنه الوحيد الذي ليس لديه ما يخسره من بين السياسيين الخاضعين لأجندات وتمويل الأحزاب الكبيرة، فقد تصيد الناخبين المقهورين من حرب الإبادة التي يتعرض لها بشر عزّل في القرن الواحد والعشرين وتنقل الفظائع على الهواء مباشرة في أقبح نقل تلفزيوني للواقع عرفته الإنسانية.
رئيس الوزراء ريشي سوناك لم يتأخر عن التعبير عن مشاعره واصفاً فوز جورج جالاواي في الانتخابات الفرعية بأنه «يفوق القلق»، واتهم جالاواي بأنه ينفي فظاعة ما حدث في 7 أكتوبر، لكن جالاواي لم يتأخر في الرد بقوله إنه يحتقر رئيس الوزراء، مضيفاً «ولكم أن تخمنوا أن الملايين والملايين والملايين من الناس في هذا البلد يحتقرون رئيس الوزراء، أنا لا أحترم رئيس الوزراء على الإطلاق».
كم من سياسيين تاجروا بالقضية الفلسطينية منذ عام 1948م، وكم من قادة حمّلوا فشل التنمية في أوطانهم على كاهل القضية الفلسطينية، على اعتبار أن جميع موارد الدولة تم تحويلها إلى المجهود العسكري لتحرير فلسطين، وكم من انقلابات قامت، وفي خطاب نصرها تصدرت القضية الفلسطينية كل المواضيع والوعود، ولازالت هذه القضية العادلة قادرة على المزيد.
صحيح أن فوز جالاواي مثّل صدمة للحزبين الرئيسيين في بريطانيا، وسيتضح ما إذا كان ما حصل مجرد دفقة مشاعر لا تلبث أن تتلاشى في نتائج الانتخابات العامة نهاية هذا العام، أم أن جالاواي ومن يشبهه في الفكر سيعودون إلى مجلس العموم بلون سياسي مختلف عما قبل الانتخابات العامة.