حسن اليمني
هي ثلاثة احتمالات حتمية لا خيارات بديلة لها، إما أن تسحق إسرائيل غزة أو أن تنتصر فلسطين أو الاحتمال الأرجح أن يتم تأجيل الحسم بين الطرفين لفترة زمنية يعاد فيها بناء القوة والاستعداد لمعركة حسم قادمة.
نبدأ من الاحتمال الثالث في الوصول إلى هدنة أسابيع أو أشهر لإعادة التموضع وترميم بعض الثغرات وإعادة بناء القوة والخطط لتفعيل أعمق وأكبر، كل هذا سيتم تحت غطاء إعادة خدعة الحلول السلمية وخلق غفوة أخرى في المسار السياسي تحت سقف المفاوضات التي توسع وتزيد من حالة الانفصال والانشقاق بين أطراف فلسطينية مؤثّرة في اتجاهين متعارضين تماماً بين مقاومة ومسالمة، والغاية بعثرة الداخل الفلسطيني وتفتيته لتسهيل القضاء عليه تماماً.
الهدنة أو وقف إطلاق النار لفترة وبالأصح تأجيل الحسم يهدف لإعادة تسويق الكيان المحتل في المنطقة للوصول إلى طي الصفحة الفلسطينية من الفهارس السياسية خلف حجة بناء النهضة الاقتصادية في المنطقة تحت عنوان الشرق الأوسط الجديد، والذي يتطلب إعادة فهرسة العقل العربي قومياً ودينياً إلى دنيوي مادي ينسجم ويتناغم والليبرالية الجديدة المتحرّرة من قواعد التاريخ وإرثه المترسب والذي يعرقل ويبطئ عملية التذويب.
الواقع الجيوسياسي في العالم والذي يصوغ اتجاهات أحداثه ويرسم مساراتها وصل اليوم إلى حد احتمال نشوب حرب عالمية تتغير فيها قواعد النظام الدولي ومحركاته بعد وصوله إلى نقطة انسداد الأفق في التعايش السلمي بين أطراف التأثير المختلفة التي بدأت في تشكيل نواة تحزبها وتجمعها في كتلتين شرقية وغربية، الشرقية وتعني الصين وروسيا والغربية تعني أمريكا وحلفاءها في أوروبا، ميدان الصراع هو قلب هذا العالم المعروف غرباً باسم الشرق الأوسط وشرقاً باسم الغرب الأوسط، كونه الحاجز الجغرافي بين الكتلتين وبالتعريف العسكري ميدان الالتماس والاشتباك السياسي والعسكري والاقتصادي، ويشكل بقاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أزمة بغيضة للغرب وثغرة اختراق للشرق.
هذا الوضع هو الذي لا يزال يستدعي تأجيل لحظة الحسم بين النظام العالمي الحالي والنظام العالمي القادم، سحق هبّة السابع من أكتوبر والقضاء على المقاومة يعني توسع للكيان الصهيوني في المنطقة وهزيمة تقصي الطامحين في نظام عالمي جديد أو على الأقل تؤجل ظهوره، أما انتصار المقاومة الفلسطينية فيعني هزيمة للكيان والغرب والنظام العالمي القائم على حد سواء وإبادة كل معطياته وأدواته وإعادة ترتيب الرسم الجيوسياسي في المنطقة العربية.
في الجانب الفكري والثقافي في المنطقة العربية يدور صراع بين الواقعيين والواهمين، الواقعيون يستندون للحقيقة والمنطق المبني على المنطق التاريخي والحقائق الطبيعية ويوصفون لدى الواهمين بغير الواقعيين والمأسورين بالتاريخ وإرثه ولا يعيشون في واقع اليوم، بينما الواهمون يرون أنهم واقعيون ويحتكمون بمنطق الظاهر والملموس والمعيش دون أن يتجاوزوا اللحظة فيما قبلها وما بعدها ويوصفون لدى الواقعيين بالمهزومين والمستلبين بسطوع الظاهر عن رؤية مضمون وحقيقة الواقع.
الواقعيون الحقيقيون يؤمنون بحتمية زوال الكيان المحتل كما هو المنطق التاريخي لأي احتلال مهما طال أمده، ويدركون أن وجود ما يُسمى «إسرائيل» إنما هو قاعدة عسكرية متقدمة في قلب الوطن العربي لصالح الطرف الغربي الحاكم والمهيمن اليوم على العالم، ويعلمون أن استمرار وجود هذا الكيان يعني استمرار ارتهان المنطقة دولاً وشعوباً تحت تأثير قوتها التي تمنع وتغلق أي فرصة للتحرّر والانعتاق من التخلّف والضعف. الواهمون أو الواقعيون بالوهم يؤمنون بأن لا جدوى من مناكفة الغرب وأن الخلاص يكمن في الذوبان والانصهار في تعاليم هذا الغرب ومنتجاته الفكرية والثقافية للوصول للأمان وحماية مكتسبات الراهن الذي يحفظ لهم رفاهية العيش الاصطناعية، ويعتقدون أن لا جدوى من التاريخ ولا إمكانية إطلاقاً لمواجهة الواقع المسيطر عليه الغرب وبالتالي فإن أي محاولة لإعادة إحياء القضية الفلسطينية إنما هو عبث وخروج عن الواقع ومعطياته لصالح إرث تاريخي يرون أنه مزيّف وصُنع خرافات وأساطير لا تصمد أمام قوة الواقع الغربي المهيمن ويحتجون في ذلك بمنتجات الرفاهية والقوة والصناعة المادية غير المسبوقة.
الواقعيون الحقيقيون يؤمنون بصراع الحضارات بين الأمم واستمرار هذا الصراع إلى نهاية العالم، ويرون أن المدنية الغربية المهيمنة اليوم على العالم قد استنفدت كل أدواتها المنطقية إلى الدخول في مراحل السقوط الحضاري قيم وأخلاق وانتهت بالعبث بالسوية الفطرية للإنسان من خلال تهجينه للمرحلة البهيمية، تلك التي أصبحت تعطل تطوره الصناعي والاقتصادي من خلال تعطيل فطرته البشرية في النمو سواء اجتماعي أو أخلاقي وبالتالي فكري وثقافي، كما يدركون أن للقوة الشرقية أو النظام العالمي القادم قواعد أخلاقية توجبها المرحلة ويرون أن في هذا فرصة حقيقية للأمة العربية والإسلامية نحو التحرّر والخلاص من الهيمنة والتخلّف، ويدركون أيضاً أن إخلاء المنطقة العربية من قواعد الغرب العسكرية وفي مقدمتها الكيان المحتل وتحرير فلسطين وعودتها للأمة العربية والإسلامية هو المسار الصحيح لعودة الإرادة المستقلة وحمايتها من الهيمنة الأجنبية سواء غربية أو شرقية.
الواهمون أو الواقعيون بالوهم يؤمنون بأن الكيان المحتل وجد ليبقى وأن الحق في القوة وليس العكس، ويعتقدون أن الصواب يكمن في التسليم بالواقع وقبوله والعيش تحت ظل قواعده، ويرون أن العدل للقوة والقدرة والكفاءة وأن المساواة تكمن في الذوبان والانسجام مع معطيات الواقع خارج أطر التاريخ وإرثه باعتباره ماضياً يبرهن الحاضر على خطئه، ولأنهم يعيشون في الوهم فستجدهم بعد سقوط النظام العالمي الحالي وسيطرة النظام الجديد ينتقلون بشكل فوري وسريع إلى القوة الجديدة ضد القديمة دون أن يرتدوا لأنفسهم ويلامسوا الحقيقة ليكتشفوا خطأهم وذلك أن الحقيقة عكس الوهم، ومن يعيش الوهم وأحلامه يفترض أنهم آخر من يمكن أن تستمع لرأيهم.