عبدالمحسن بن علي المطلق
السيرة النبوية للأسوة صلى الله عليه وسلّم لا يعلوها أي درس لا في تمام الاتباع ولا في كمال الإمتاع، لأنها (وحدها) النموذج للقائد والإمام، كما وليس سواها المثال- المُحتذى-، وكفى أن كل جوانبها دلالاتها كافية ووافية، وواضحة.
ولعلنا نقف (ونحن أُمّةً وقّافة على الدليل) فمما عُلم أنه ليس بوسع من استبانت عنده السنّة أن يحيد عنها، بل ولا بمَلكه فعل ذلك، ففي آية (.. قدوة حسنة) أن الحسنة ضدها السيئة نعم، ويلاحظ أيضاً التعبير بالشيء الحسن - الأحسن- الذي ليس معتاداً فقط، بل بلغ من الإحسان أنه لا يعلوه نموذج آخر يُنشد، ولأولئك من اقتدوا بُشرى أن (يتحرّوا رشدا) يبلغهم (جنة المأوى) .
ثم..
إننا -كمسلمين- مسلّمين أنه لا يقترب موسمٌ للعبادة إلا وتتغيّر نمطية حياتنا لجُرعات الإيمان التي تُنشر (بخاصة من يتعرّض لنفحات الله) ، لأن الموسم فيها غير، حتى قال جابر بن عبدالله رضي الله عنه (.. لا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء) أي أقصر مما كنت تستكثر فيه من المُباحات، عساك وقاراً مع الشهر.. تُعان في توقّي نواقصه فضلاً عن نواقضه!، وخذ تأكيداً فارق أول الشهر عن آخره» العشر الأواخر» حيث كان (نبي الله) يشدّ مأزره، و..
كما هو في اختلاف الجمعة عن سائر أيام الأسبوع، و (عرفة) عن سائر أيام الحج..
وليس هذا بدعاً، فقد كان صلى الله عليه وسلم نبراساً بهذا يهتدي بنور مسيرته الساري في دُلجة الغفلات أو ما يلفاه الباحث في أتون سنّته ليعمد إلى التطبيق بها، فلا مقدَّم بين يديه عليه من ربّه الصلاة والسلام.
و.. لأنه لا يزيد من داخلنا حبوراً من مثل إحسان محدّثك باختياره (حال دنوِ مواسم الخير) ما سيتحدّث عنه، ما ينم صنيعه عن حسن ترشيح منه..
فإن خاض في الكرماء والكرم إلا تجد في اختياره مثاراً لنقع انبهارك، درجة إغراء تمسي كـ (العدوى) حميدة تعود عليك، أو على الأقل نشوى تحقق بها../
تشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم
ولو في مُحاولة التخلّق بهذا، فهذا طُرّا مَن يُحلّق بالذات عن المشاهي.
ليُمخر مفاخراً أن.. (أولئك آبائي) ، كي يدفعك ولو في الزهو بمآثرهم، فـ.. ماضي الأجداد عزّ الأمجاد
.. وذاك أن فيض مواقف (الكرماء) .. وأحاديث عنهم ترهف فترغّب - تُعين- من بيوم تولّى، وعنها راغباً، وهذا عدا ما للمحاولة إن عزّ التطبيق أثراً بالنفس بليغاً..
طولاً لهاتيك المفاوز، إن كبت به آثارة جمعه - حطام- دنياه عن تلك الزلفى، لأملي/ أن المواعظ وهي الأخت الشقيقة للمواقف.. تُمسي كإحدى أدوات «تغذية» الخير داخلنا، ولو في شرف المُحاكاة (إن التشبّه بالكرام فلاحُ) ..
فكم من موعظة/ موقف/ قصة/ واقعة.. أفاقت منغمساً تمادياً بما خُلق له عما خُلق لأجله!، أو أيقظته، كما نبّه (الربيع) ورودا كُنّا بالأمس نوّما.
لتكون (بعد الله) سبباً أن تغيّر من بوصلته..، بالذات إن حنفت للمعطيات الصِرفة للحياة، رافدةً به إلى ربوة ذات قرار أسمى له، أو أدناها أن تزلزل ذاته من عرش رغائبها التي استحكمت به، فتجعله ينشد باسق ما عند ربّها، مُتنكّبة عن غيّ ما كانت به، بالأخصّ إن صحب هذا ندمٌ على ما فرّطت بجنب مولاها سبحانه، فهذا (درس) حسبه أنه بذاته كافٍ،.. فكيف بما يصحبه من خير في النتاج، سواء في عودة منه ليسقي بذرة الإيثار داخله، أو أطره على البذل..
.. ولئن كان المرء يُصلحه الجليس الصالح (..كبائع الطيب) ، فكيف بحاله ستكون إن كان ذاك الجليس مصلحاً.. ذا نفع (مُتعدّي)، كالذي يعطِ لك الطيب، وهناك أكبر.. من يقدّمه (بلا منّ ولا أذى..) ، لا ضنين به، أو مستأثر..
وكل ما تقدّم بمثابة توطئة، فالحديث عن خُطى خير من وطئ الثرى، وصدر أمّة.. هي خير الورى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} محمداً - صلى الله عليه وسلّم - مما تشرئب الأعنقاق أمل النهل من سيرته فكيف بذاته الشريفة، فـ/ سيرته.
«محمد» خير الأنام جميعهم
قّرّنَ الإلهُ بهِ اسمهُ تكريماً
أوصاكَم المولى وقال بنفسه :
(صلّوا عليه وسلِّموا تسليما)
فإنني لم أبلغ مقاماً ذاكا، ولا أُنفر قلمٍ قد كبْا عمن دونه، فكيف به مع من قال عنه ربّه {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) القلم..، فهو المبعوث (بشيراً ونذيراً) ، فإني لأوّل من سأوقف ذاتي أن تعدو قدرها، بل وأشير أن مادتي - هذه- لا تمتّ لشرف العلم بنسب، لا من أمّ ولا من أبّ إلا أني لا أعدو ناهلاً من معطيات حضرنني..، ففي ماء (أسوة) غزارتين، مادية خَلقية التأسّي، ومعنوية خُلقية بما مما تراه، وإلا فكم.. يجلجل داخلي سببٌ رئيس لا تجعل متلقّي النصيحة يعمد العمل بها -يعتمدها- لما يجده من مسافة ما بين القائل وفعله!، ولا غرابة بما حتى بلغ حين بالغ «الطغرائي..»:
انفرج من (مسافةُ) الخُلْفِ بين القولِ والعَمَلِ.
بعلم الإدارة يوصف هذا الانفراج بالفجوة بين ما أنت فيه وما تطمح-لا أروم ما تطمع!-، فهذه (أي الفجوة) إن كانت شاسعة تُودع خللاً كبيراً في حواسّ المتلقي، ما تكاد ترمي بـ (شرر) .. تضائل أمل الوصول حتى يقال {إياك يُرمى هذا التحذير {إياك أن يرى ابنك فيك.. ما تنهاه عنه}!
فإن بين الناصح وبين نصيحته ليست شعرة، كما يقال، بل جديلة، ما يجعل جلاءها في الأخذ بأمرٍ هو لا يطبّقه أن تُطبق عليه -المنصوح- (..لو كان خيراً لسبقني إليه) ..
مع أن الأصل أن النصيحة تُؤخذ (إن كانت حقاً) مهما كان واقع مُسديها، فـ (خُذوا الحكمة من أفواه المجانين) شائعة، بمعنى وإن صدرت من تلك الفئة أليست مقولة لأن الحق يُنشد لذاته لا لقائله، ولهذا شاهد تربوي يُقال أكره الفعل السيىء.. ولا تكره فاعله) ، مغبّة أن يُحرم من تصويبك..
فالقائل بخير هو لا يفعله، يفعل لا يعدو حالين، إما حَرم نفسه منه، أو مِنه محروم!
على أننا لن نغضّ طرف التعذير لبعضهم، أقلّها أن لسان حاله يقول (اعمل أنت بما عجزت أنا عنه) .
ولذلك تلفى هناك من لديه من الأسباب ما (قد) يُعذر به، وإن بقيت حبيسة بينه وبين ربّه، أي لا تظهر لك، فالخلق في كنف ستر ربهم يعيشون.
ثم كم ممن هو في مثاقيل من أعبأ لولا أنه صابر وفي مضمور تجلّده مودعها.. كي لا يبدو للشامتين منه، لكادت تميد به الأرض التي تحته، وربما من بينها خبايا يعَّ عليها بأنامل المصابرة.. ولو أطلعت عليها لتضاءلت معتبتك، خلا أن تمتلئ -منه- عَجباً.
ومع هذا وذاك يبقى هذا السبب، شاخصاً في تضعضع مُجمل ما يُلقى من وعظ، فحسبه أن القران ذمّ أهل هذا المنحى كقائم -ماثل- أمام المتلقين ليبلغ الحائل عن جلّ التطبيق أو التخفيف من قبول معظم الخير الذي يُبث، كما في زجرٍ الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}، فالنووي-رحمه الله تعالى- أودعها تحت «باب تغليظ عقوبة مَن أمَرَ بمعروف أو نهى عن منكر وخالف قولَه فعلُه»، ولتأتي «قارعة» قد تقع على رؤوس من هذا نحلهم {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ}.. من تلك صنائعهم، كما قال الشيخ أبو بكر الجزائري: (لفْظ النداء عام، والمراد به جماعة من المؤمنين قالوا: لو نعلَم أحب الأعمال إلى الله تعالى لفعلناه، فلمَّا عَلِموه ضعفوا عنه ولم يعملوا، فعاتبَهم الله في هذه الآية) ، وشاهدي هنا تتمة الشيخ - الجزائري- (ولتَبقى تشريعًا عامًّا إلى يوم القيامة)، ولأقول إن «قارعة» ليس فيها مبالغة!، فالشرك سيق بأشد تحذير طال حتى من له عند مولاه زُلفى، أو وُعد بحسن المآب، كأنبياء الله، الذين قيل لهم (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) 65 الزمر، وما ذاك إلا لأن العقيدة سياج عظيم وعالٍ، لأحدٍ أن يتسلقها أكان نبياً مُرسلاً، أو ملكاً مقرّباً..
ثم تصوّر أن تسمع من يلقي خطبة عصماء عن جلائل ما للبذل، وحاثّاً العباد على السخاء فيما البخل يكاد يخرّ من أكمامه!، إلا وتردد بذاتك (أنّى يستجاب له)؟
هنا تجد أن (رسول الله وهو الأسوة المنقطعة النظير -صلى الله عليه وسلّم-.. كان أوّل من يعمل بما يدعو له، بل ما لا تتخيّل لـ هذا الذي حظي بمنزلة عند ربه لم يبلغها أحد، فهو (أكرم الخلق على الخالق) يعيش في كنف الكفاف، درجة أنه (يمرّ الهلال والهلالان ولا يوقد في بيته نار) كناية عن - طبخ- طعام، ويقع هذا مع ما يأتيه من خيرات (غنائم) الغزوات، ثم يصرفها صرف ما وصف «الأقرع بن حابس» لقومه ( (يا قوم، أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر) )، وصدق أنسٌ رضي الله عنه: «إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها»، رواه مسلم رحمه الله، أي سرعان ما تتبدّل نيّته لما يراه من نبي الله، ودينه.
فمما نجد في السّيرة وكيف يعالج صلى الله عليه وسلم ما يراه بأصحابه من قلّة ما يجدونه، مخبراً وهم يعرفونه حقّ المعرفه، لأنه (الصادق الأمين) بما يقول به عن ربّه.. مبشراً (ما الفقر أخاف عليكم..) ، فيسلّمون، لأنهم لا يشكّون في بشائره قيد أنملة.
لكن ومع جوانب ما أوردت فقد يبقي للملام قوائم لفئام هم أهل لمعتبك.. وإن كانوا بمسغبة، أعني مهما كانت أعذارهم، فالناس ليس لها إلا (الظاهر) ..
ولهذا فكم يعزّ عليك أن تجد من مظاهره سمات تغريك في قراءة أحواله، فيخيب ظنّك به.. كما خيّب النُجباء (الفتى الطرير)!
ولوجه مُلحّ يبرز، وقلّما تغيبّه الأعذار.. وإن استبانت بعض أحوال من ينصح.. يجعل المتلقي تتقهقر همّته من قبول النفع الذي يدلي به، لا نكوصاً عن الخير ذاته، معاذ الله، لكن لأن مُصدرها سبب يعور جمالها، أو صنائعه، ولذلك يُنصح المربّي، وكوجه مُحاكٍ لما تقدم (.. إياك أن يقع تلميذك على خلاف ما تأمره به)!
وهذه - أي الخطرات - التاليات جالت في ذهني وأنا في محضر دروس علمية في السيرة النبويّة، لتثرينا، حسبها أنها من مأدبة «خُطى» المصطفى تغنينا، ما جعلت من تعابيري لها رصداً، وهي يومئذ علينا تتراً.
فمنذ شهرين بالتقريب وفي لياليا عهدنا بهنّ إمام مسجدنا وهو يُطلعنا من تلكم «السيرة الزكيّة لخير البريّة»، وذواتنا في سُرحات ترانيمٍ:
صلى عليك الله في عليائه
ما صاح داع للأذان وكبرا
يارب صلّ على النبي محمد
أزكى الأنام، خير من وطئ الثرى
.. بُعيد صلاة العشاء جزاه الله خيراً، يشنّف من تلكم أذاننا، فها أنا -هنا- محاولاً التبريح عما جاش بي بعد جمعٍ في سلّتي ما دنا لي من قطوفها
إذ في بضع دقائق لا تزيد (إن بالغ) العشر، وكذا شأن كل من رام اصطياداً للقلوب، فسدد حين رمى، ما ستحضرني صيده/
بأبي من بذكره تُباع القلوب.. وتُشترى
بالمناسبة ليس القول بأبي بمثابة قسم!، بل مرادها أي (أفداه) ، ونعم
.. فكلنا والذي خلق الحبّ وفلق النوى نفديه صلى الله عليه وسلم بالنفس قبل النفيس كالوالدين، ورحم الله «أحمد شوقي» يوم أوجز عن هذه الرحمة (المجتباه) :
فإذا رحمت فأنت أمّ أو أبٌ
هذان في الدنيا هُما الرحماء
أي بلغت رحمتك (أو تعدّت) رحمتيّ «الأبوين» معا، فما بعدهما رحمة تماثلهما، مما لا حاجة لبراح عن هذا.
فإن تأكيد المؤكّد لجاجة في دفوعات-حجج -بلغت سلفاً أدنى القوم معرفةً..
هنا.. ومما لا أنساه أننا- الحضور- لكم تترطّب منّا القلوب، ما يودّ أحدنا (لو تنفع الودادة) نافثها.. أن هناك رحلات إلى الزمن الماضي، ليقضي تفثه وعوالق ما يغريه بتلك التي رنينها وحده كافٍ وهو يقع بالمسامع أن تُهمل المدامع.. التي إن جاست بتلك الذكريات قلّما يخفّ عنها توجّدها، أو تُشفى..!
هذا وهو لأخبار القوم ساج طرف آماله، فكيف به إن كان في زمرتهم، لتُقّرّ داخلك أن/ الأذن تعشق قبل العين أحيانا وأظنّكم معي على هذا تتفقون.
نعم.. ننتقل بكل مشاعرنا (إن حال الأجساد واقعها) إلى ذاك العهد، فنتلمّسه بما سُطر ما نكاد نقبّل الطُّرس بما يُقبل منها علينا ليُرهف مشاعرنا، وكم في الصدور ما لا تسطّع تبيانه السطور؟، ثم ننكبّ في تشبّث به من خلال تقصّي أدنى جزئياته، فلا نفرّط بعدُ بذاك الفريد، وإرثاً بالفعل تليد، لأنه وحده المجيد.
هنّ دقائق نعم، لكنها سريعاً ما تنقضِ ويمضي سامرها، لينفكّ عنّا قيد ذاك الغزير تأثيراً، وبقية ذاك الأريج.. ما نتمنى- عندها- لو أرهف الإمام لما يخالجنا حين ينقضي من أحدوثة أن لو يُعيدها..!
وليس بضائرنا رواج أمانٍ كهذه تجول بنا، حتى لو لم تتحقق، فبربكم أجيبوا/ من يرفض السُّكنى على كوكب؟!
وعوداً لصنيع «إمامنا» وهو ينحو هذا إيثاراً لنهج نبينا عليه الصلاة والسلام في الوعظ، مُقرّاً - أنا- له بحُسن صنيعه، حتى وإن لم نتشبّع.
فالنحل النبوي يلجم من تمنى مستزيداً، وهو حديث «حنظلة» أن رسول الله- عليه الصلاة والسلام- يتخوّلهم..، أي يتصيّد منهم القلوب التي ما أن يُطال بها المقام إلا ونابها من السآمة ما يصرفها عن التحصيل - النفع- إلا لمما مما تعيه، فيما تذرو رياح النسيان كثيراً مما تسمع من أن يُتابع، ولقد قال صلى الله عليه وسلم (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنَّة -أي فقهه-، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة) مسلم، وهذا علمياً مُدرك!، إلا أن قاعدتي طلب (الإيجاز) و (.. في زيادة المبنى زيادة للمعنى) تحُس للتوفيق بينهما شعرة قد لا يستبينها إلا من لديه خبرة في الكتابة، أو محدث يحسن قراءة واقع (الحضور) وعلى هذه.. والأخرى يترجّح له أيمسك، أم يزيد.
فكم من مأكل شهيّ ضاعت لذّاته بين كثرة طعوم تقدّم معه، أو ثمار جنيًّ قطوفها حين تكثارت علينا صنوفها!، ما لا يجعل لديك من تمايز حال تذوّقها.
.. على أن هذه الـ (دروس) في السيرة لها رنّةٌ، لما تجمع من صنوفٍ شتّى من المعارف، الحديث النبوي، وأجواء التشريع أعني الدواعي، فوقائع القوم، مع عين الاعتبار لما أزعم أنه رأس سنام السّير «التأسي»، للآية {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.. وسبحان الله أُنظر بموضع (توقيت) نزولها «عتاب للمتخلفين عن القتال» أي كان لكم قدوة في النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بذل (نفسه) النفيسة في حضور ذاته الكريمة في موطن الهيجاء يوم خروجه إلى الخندق، وكأن للتقريب، بل أقولها من (كيسي) أن /
كيف لا يكون قدوة في أمور هي أيسر من هذه، وفي هذا نوعٌ من التعنيف للخوالف في الاقتداء بالأمر الكبير وهو (بذل النفس)، لأن من أدنى وُجوه التربية تُخبر.. إن قيام كبير القوم للترحيب بالضيف.. مثلاً، أن فعله هذا ينسحب لزاماً على من دونه، ليقوم كذلك، وهذه من مثل ساق بعض المفسرين فحواه «أن إبليس لم يكن من الملائكة، ولكن لأنهم أسمى منه منزلة وقد أُمروا بالسجود لآدم فبالتأكيد الأمر الذي طُلب منهم-السجود - ينسحب عليه»..
وقد علل أنه خير منه، ولم يستحضر أن الأمر صادر من الله -سبحانه-، فالاستجابة هي طاعة لِلهِ..
وأخيراً وليس آخر أن من فيض السّير التعزّي، كما في قصة يوسف بالنسبة لنبينا -عليهما الصلاة والسلام-وقد كان نزولها بالعهد المكي.
وإن زدت لامست من طرف مما في السيرة (والوحي يومها ينزل غضّا -طريا- وِفقا للحوادث والحاجات) وتتلقاه بلهفةٍ أفئدةٍ تُعاجل في (التطبيق).. كتعبير عن فرح غمرهم من داخلهم، ما يجعل كل من يفيق شروق يومه سأل عن النبي صلى الله عليه وسلّم ليتّجه مباشرة إليه، لتلقّي المزيد، كما وأنه (صلى الله عليه وسلم) لا يُشبع منه.
وللِهِ درُّ عمرو بن العاص رضي الله عنه (وما كُنْتُ أُطِيقُ أنْ أمْلأَ عَيْنَيَّ منه إجْلالًا له، ولو سُئِلْتُ أنْ أصِفَهُ ما أطَقْتُ؛ لأَنِّي لَمْ أكُنْ أمْلأُ عَيْنَيَّ منه) -مسلم -، وزاد شاعره (حسان) رضي الله عنه فأمتع وكاد يُشبع/
وأحسن منك لم تر قط عينى
وأجمل منك لم تلد النساء
فـ»يا أحباب» هم يقولون بهذا والنبي بين أظهرهم،.. فبربكم!، ماذا نقول نحن..؟، لكني أسرح بتلك عساي أعيش جوّاً مختلفاً، إذ مهما حدثّت وإن بدرت من وجُعبتي بكلمات رنانة.. لن أشبعه.
وهنا «إشارة» ما قال بها بعضهم كتعليل للنقطة الأخيرة من أن فهم الصحابة رضي الله عنهم للنص النبوي مقدّم على من بعدهم، لأسباب عرضها أهل التخصص، وكذا حديثا ما قيل عن لغة الجسد، بل حتى نبرة الصوت، وهاكم من لقطاتها/
يوم حذّر النبي فبلغ (ألا وشهادة الزور..) وقد غيّر من جلسته- اتكأ-.. وهو يكررها.
على أنه إن بقي من بقيّةٍ كوجه من (العزأ) أهتبله من مادة للأستاذ «أدهم الشرقاوي» اقتطع (كُلنا نتمنى لو أننا رأينا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، لندافع عنه يوم آذته قريش في نفسه ودينه، ولنصد عنه الحجارة يوم رجموه في الطائف، ولنكون له حرساً ورفيقاً يوم هجرته، ولنذود عنه في أحدٍ فلا يسيل دمه الشريف كما سال، ولنأكل عنه كتف الشاة المسمومة التي قدمتها إليه امرأة من يهود، وهذه أُمنية لا شيء فيها، نابعة من الإيمان، ومن محبته صلى الله عليه وسلم) ، وفي ملامسة هي أكبر.. تدفع، وعنّا تُدافع لجُبير بن نُفير:
(جلسنا إلى المقداد بن الأسود رضي الله عنه يوماً، فمرَّ رجلٌ فقال له:
طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، واللهِ لودننا أنَّا رأينا ما رأيتَ، وشهدنا ما شهدتَ!
فغضبَ المقداد غضباً شديداً، ثم قال:
«ما يحملُ الرَّجل على أن يتمنى محضراً غيَّبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف يكون حاله، واللهِ لقد حضرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبهم الله في النار، لم يجيبوه ولم يصدقوه، ألا تَحمدون الله إذ أخرجكم تعرفون ربكم، مصدقين لما جاء به نبيكم، قد كُفيتم البلاء بغيركم؟»، ووصفه لذاك ب (البلاء) هو مُحاذٍ لما قال به (المُلهم) الحسن البصري رحمه الله بجواب حفيت به كُتب التاريخ حول ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم كالجمل وصفين: (تلكم نجّى الله سناننا منها، فلننجي ألسنتنا منها) أي بعدم الخوض بما جرى..
ولذانك جزآن، فالأول شاهدي، كفعل التابعي «ثابت البناني» وهو يُقبل يد أنس بن مالك رضي الله عنه ويقول{يد مسّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم..}، فأحسن من (عقّب) بـ.. ويد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الأُخرى دفوعٌ لشاهدي.. مغبّة دخول حرف (لو) وهو من عمل الشيطان، والتي عليها أَسند ملامته سيدنا المقداد بجواب ما جاء ب (الجزء الأخير من مقالته)..!