د. محمد بن إبراهيم الملحم
الشهر الكريم يحل علينا الأسبوع المقبل -إن شاء الله -، وكلي دعاء أن يوفّق الله جميعنا لحسن العبادة فيه وأن يتقبل صالح الأعمال. ولا شك أن هاجس الدوام في رمضان يتحرك في مشاعر كثيرين، بل ويحتل مساحة كبيرة من حديثهم وتعليقاتهم وتحليلاتهم، وإني من جيل أدرك الفترة الذهبية لعيشة الجد والاجتهاد وشهدت -ولله الحمد - حال الناس وهم يعيشون نهار رمضان كما يعيشون غيره من الشهور، فلم يكن هناك نوم في النهار وسهر بالليل، بل كل يقوم بأعماله في النهار تماماً كما كان الحال قبل رمضان، وكل ينام ليله تماماً كما ينام في غيره من الشهور فيذهب الناس لفرشهم مبكرين غير أنهم يستيقظون قبل الفجر بساعة ليتمكنوا من تناول السحور ثم تستمر الحياة. وبعد أن استمرأ الناس حالة السهر المتواصل إلى الفجر وهجر نوم الليل صارت حياتهم مقلوبة ورمضانهم مختلفاً، بل انسحبت عادة السهر مع الأسف إلى سائر شهور السنة وأصبح النوم المبكر في وقته البيولوجي الذي أقته الله لنا وخلق ساعاتنا البيولوجية عليه أمراً نادراً وقليل من يعمله، بل قد يكون مستنكراً ومحل تعجب.
الطلاب والمدارس ورمضان، وما أدراك ما الدراسة فهي تختلف عن غيرها من «الدوامات»، فأنت أمام حالة تشحذ فيها ذهنك وتُفيض بها مشاعرك لتستوعب ما يقدم لك، بل ولتتفاعل معه أيضاً وتسهم في حالة التعاطي التعليمي التي يقدمها جو الفصل بأنشطته ومتطلباته وواجباته، ومع الأسف فإن أغلب الطلاب يعيشون في فلك أسرهم الساهرة والمواصلة ليلها بنهارها، فلا يبقى لهم من وقت للنوم سوى النزر اليسير بعد صلاة الفجر إلى وقت الدوام، وهي سويعات بسيطة لا تسمن ولا تغني من جوع وإنما تذر الطالب متثائباً في الفصل أو على أقل تقدير غير متكامل التركيز وشحيح العطاء والتفاعل، السؤال هو: لماذا لا نعود للأصول ونعيش ليلنا ليلاً ونهارنا نهاراً! وطريق ذلك لن يكون عن طريق الأفراد أنفسهم وإنما عن طريق العمل المؤسسي المخطط له، ولنتخيل.. أقول نتخيل فقط، أن ذلك تم من خلال أنظمة وإجراءات توقف فيها الأنشطة التجارية الليلية وتغلق فيها الكافيهات وأماكن النزهة ولا يبقى سوى المطاعم لمن يريد أن يأكل ويشرب أثناء الليل، وما عدا ذلك فكل شيء مغلق وليس هناك ما يشجع على البقاء مستيقظاً، بل حتى أنوار الحدائق وأماكن النزهة مطفأة وشوارع الحارات تم تخفيض نورها إلى النصف تقريباً ليأوي الناس إلى بيوتهم.. قد تضحكون وترون أن هذه صورة خيالية لكنها هي واقع الحال في كثير من البلدان الأوروبية، وليس في رمضان وإنما سائر شهور السنة، بل حتى أغلب البارات والملاهي الليلية تغلق أبوابها الساعة الثانية ليلاً بحكم القانون! ولا يستثنى من ذلك إلا بعض المدن السياحية أو أماكن محددة، أما باقي المدن فهذه معيشة الناس فيها، وهذا في عطلة نهاية الأسبوع أما أيام الأسبوع فالوضع أفضل طبعاً على جميع المقاييس. أعلم جيداً أن هذه الصورة بعيدة التحقق لدينا ولكن لنتصور أنها حدثت يوماً وكان السبب المعلن وراء تلك القوانين والتنظيمات الصارمة هو دعم التعلم في المدرسة أملاً أن يؤدي كل ذلك إلى لجوء أغلب الطلاب للنوم ليلاً مما يشجع على التركيز في التحصيل العلمي والارتقاء بمخرجات رأس مالنا البشري الذي هو أملنا المستقبلي لأخذ مشعل الابتكار من الغرب إلى الشرق عبر بلدنا، وهو طموح كل بلد في الواقع، فماذا لو حصل هذا السيناريو.. كيف سيكون انعكاسه على كل المتعاملين مع التعليم سواء كانوا طلبة أو معلمين، وكيف سيكون الأداء؟ وإذا كان هذا السيناريو المصغر في رمضان فقط (لنفرض ذلك) ألا يمكن أننتشر عدواه لباقي الشهور سنة بعد سنة، بل كيف الحال لو كانت تلك الأنظمة الجديدة لحياتنا طوال العام الدراسي.
عندما نقول بيئة التعلم أو بيئة الإبداع والابتكار، فإن ذلك يجب ألا يقتصر على المدرسة والفصل والجامعة والمعهد كما يقفز إلى أذهاننا عادة وإنما يجب أن نفكر فيه بشمولية أكبر فهي أيضاً البيت والشارع والسوق والمنتديات والمؤسسات وأماكن النزهة وأماكن الأعمال وكل مكونات المجتمع التي يتفاعل معها الفرد فتؤثر فيه سلباً أو إيجاباً وتسهم في دعم وجهته نحو العطاء الحضاري.. فهل سنكون ذلك يوماً ما؟