اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
تتميز فلسطين بموقع إستراتيجي يتوسط منطقة الشرق الأوسط، ويربط بين ثلاث قارات، مشكلاً ممراً برياً وبحرياً بين هذه القارات التي تعتبر فلسطين حلقة وصل تصل بينها.
وهذه القارات الثلاث هي آسيا وأفريقيا وأوروبا التي اعتبرها أحد أقطاب المدرسة الجغرافية الطبيعية في السياسة السيد جون ماكندر بأنها تمثل جزيرة العالم حيث تطرق إلى ذلك في نظريته حول الأسس الجغرافية للسياسة العالمية، ومدى تأثير العوامل الجغرافية والاقتصادية والبشرية في سياسة الدولة الخارجية.
وبفضل خصائص موقع فلسطين الجغرافية وهيئاته الحيوية وإشرافه على بحرين مهمين يؤديان إلى محيطين أكثر أهمية، ووقوعه على مسافة قريبة من قناة السويس ذات الأهمية الاستراتيجية، أصبحت الأرض الفلسطينية والمنطقة العربية مستهدفة من قبل الحركة الصهيونية وقوى الاستعمار والامبريالية التي جلبت اليهود والمتهودين إلى فلسطين على أنقاض الشعب الفلسطيني، متخذةً من الآراء التي نادى بها ماكندر مدخلاً للمطامع الاستعمارية ومرشداً إلى اختيار الوطن القومي اليهودي في الوسط الطبيعي للعالم.
والواقع أن احتلال اليهود لفلسطين وتشريد أهلها وتغيير هويتها أدى إلى فصل مشرق الوطن العربي عن مغربه وحرمان المنطقة من الاستقرار، وجعلها عرضة لأطماع قوى الاستعمار، الأمر الذي انقلبت معه المعادلة رأساً على عقب، وتحولت مكاسب الموقع إلى متاعب بالنسبة للأمة العربية التي استولى العدو المحتل على أرضها وفصل مشرقها عن مغربها. ورغم الأهمية الاستراتيجية لموقع فلسطين المحتل من قبل الدولة العبرية والدعم الخارجي الذي تحصل عليه هذه الدولة على مختلف الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية والبشرية إلا أن العامل الجغرافي والعامل الديموغرافي يخلقان الكثير من المشكلات والمنغصات أمام الكيان الصهيوني الذي يحاول التغلب عليها عن طريق بعض الإجراءات الداخلية والحلول الجانبية والعمليات العسكرية في ظل الدعم الخارجي والحماية الأمريكية والغربية،وضيق المساحة وتجمع أغلب السكان في منطقة معينة والافتقار إلى العمق الاستراتيجي وطول الحدود والجوار العربي الرافض لوجود الدولة العبرية وعدم وجود منافذ برية وصعوبة العمل العسكري من خطوط خارجية، كل هذه العوامل نجم عنها عوائق تعيق توسع الكيان الصهيوني وتحول بينه وبين تحقيق الأهداف التي يحاول تحقيقها حسب مخططه المرسوم وطموحه المعلوم. وفــي المقابل فإن طول الحدود البحرية والمزايا المترتبة على ذلك وتنوُّع شبكة المواصلات وفاعليتها والقدرة على العمل العسكري من خطوط داخلية وتطويع المذهب العسكري وتكييفه مع الواقع بما يخدم العمليات العسكرية واختلاق الذرائع الأمنية والسعي الحثيث لامتلاك التكنولوجيا وتمزق الصف العربي وتشتته والدعم الخارجي، جميع هذه العناصر فعلت مفعولها لتخفيف تأثير بعض المعوقات والحد من تذليل الصعوبات.
والدولة العبرية جعلت المستعمرات البحرية شغلها الشاغل ومحل اهتمامها حيث إن هذه المستعمرات لا قيود عليها ولا يحدها حدود ولا تخضع لحصار، نظراً لأن البحار والمحيطات مفتوحة أمامها، كما هو الحال بالنسبة لموقع فلسطين وأهميته البحرية من النواحي الأمنية والاقتصادية والسياسية والعسكرية.
وعلاوة على أهمية ساحل البحر الأبيض المتوسط واعتباره يمثل منفذا أميناً للدولة العبرية يُمكنها من الاتصال عسكرياً واقتصادياً مع الخارج وخاصة أمريكا والدول الغربية فإن خليج العقبة على البحر الأحمر يتيح لها الاستفادة من الموانىء الواقعة عليه وإنشاء قناة بديلة لقناة السويس. ومما لا شك فيه أن التصور الصهيوني لجغرافية الدولة العبرية يشكل دليلاً قاطعاً وبرهاناً ساطعاً على أطماعها التوسعية كما يتضح ذلك من الخرائط المطبوعة، ومن الكتاب المعنون بجغرافية إسرائيل الذي تم استهلاله بالتمييز بين الحدود الطبيعية والحدود السياسية والحدود التاريخية. ومن أجل تكريس الاحتلال والانتقال من حال إلى حال على طريق التوسع المعلوم وحسب المخطط المرسوم يحاول الكيان الصهيوني ترك الحدود السياسية عائمة، ونظرية اتساع المجال الحيوي قائمة، متعمداً عدم ترسيمها على حساب الدول المجاورة التي يتربص بها الدوائر طبقاً لمشروعه التوسعي ومشروع أسياده الاستعماري. والدولة اليهودية تنظر إلى الحدود الحالية بأنها لا توفر لها الحماية الطبيعية التي تنشدها، الأمر الذي جعل غايتها من أي حرب تشنها هي تغيير خط الحدود القائمة والتوسع الاستيطاني على نحو يخدم أوضاعها العسكرية والاقتصادية مع تغليف ذلك بالمصطلحات الأمنية والدفاع عن النفس. وما ضم القدس القديمة والتوسع بعد حرب 67م إلا إمعاناً في التهويد والتوسع والتأكيد على شرعية ذلك وربطه بالماضي والحاضر والمستقبل تحت شعار الحدود الشرعية تارة والحدود الآمنة تارة ثانية والحدود المقدسة تارة ثالثة والحدود التاريخية تارة رابعة مع اعتبار الأرض المجاورة بمثابة حقل تجارب للتوسع وزيادة المجال الحيوي، انطلاقاً من المهمة القومية التي تدفع الدولة العبرية إلى التوسع وتغيير خط الحدود على النحو الذي يتفق مع الخريطة المزعومة والحدود المرسومة. والدولة العبرية تتبنى منظوراً سياسياً وأمنياً تشكل فيه الجغرافيا والديموغرافيا محوراً أساسياً حيث إن مسمى الدولة اليهودية لا يتوقف على المفاهيم الدستورية والقانونية والسياسية فحسب، وإنما ينطلق من العامل الديمغرافي الذي يتطلب المحافظة عليه وجود أغلبية يهودية داخل الحدود المعترف بها، وفي جميع أجزاء الأرض المحتلة انطلاقاً من أن العامل الديمغرافي يتم التعاطي معه أمنياً واستراتيجياً وهو أهم من العامل الجغرافي لأن الهيمنة السكانية تفضي إلى الهيمنة المكانية.
وانطلاقاً من الاهتمام بالعامل الديمغرافي فإن الدولة العبرية تنظر إلى مهمتها القومية بأنها جمع شتات الجاليات اليهودية المنتشرة في العالم وتهجيرها إلى فلسطين بعد تأدية المهمة على الصعيد الجغرافي التي تهدف إلى تأمين الوطن القومي اليهودي ضمن حدوده التاريخية، وقد قال أحد رؤساء اللجنة التنفيذية في الوكالة اليهودية: إن إسرائيل تحتاج إلى 40 ألفا من المهاجرين سنوياً فيما لو أرادت التغلب على مشاكلها الديمغرافية بنجاح.