اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
ومنذ أن تأسست الدولة العبرية وهي تعمل جاهدة لتغيير التركيبة السكانية في فلسطين عن طريق تكريس الهوية اليهودية وإحلال الشعب اليهودي محل الشعب الفلسطيني في تغيير ديمغرافي بلغ ذروته بعد حرب عام 67م، وما ترتب عليها من عوامل جغرافية وديمغرافية مؤثرة نتيجة للاستعمار الصهيوني الذي يسعى إلى طرد سكان فلسطين بشتى الطرق وتوطين اليهود في موطنهم، تمشياً مع مقولة أحدهم: إن السلطة في كل بلد تقبع دوماً بيد الطبقات المالكة للأرض.
والقانون التشريعي للدولة العبرية ينص في إحدى فقراته على أن مهمة جمع شمل اليهود من الشتات هي الواجب الأساسي لكل من الكيان الصهيوني والحركة الصهونية، مما يتطلب من الجاليات والجماعات اليهودية تلبية النداء وتأدية الواجب من خلال الهجرة الجماعية والمساهمة في إقامة المستعمرات والمستوطنات التي تساهم في بناء الدولة اليهودية وضمان استقرارها واستمرارها، بوصف أن هذه الدولة تعتبر نفسها صنيعة الشعب اليهودى بأسره، وقد تطرق بن غريون إلى انعدام التطابق بين الدولة اليهودية والأرض المحتلة في قوله: تتألف كل دولة من الأرض والشعب وإسرائيل لا تشذ عن هذه القاعدة، غير أنها دولة لم تأت مطابقة لأرضها وشعبها.
والكيان الصيهوني ينظر إلى الوجود الفلسطيني بأنه تهديد ديمغرافي يتعارض مع سياسته التي يحاول على ضوئها تكريس الاستعمار الاستيطاني وتغيير الأوضاع الديمغرافية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في الأرض المحتلة توطئة لإقامة الدولة اليهودية المنشودة.
ويجري هذا الاستعمار الاستيطاني في الوقت الذي يرى فيه الفلسطينيون والجوار العربي بأن الاحتلال الصيهوني للأرض واستباحة العرض والتوسع الاستيطاني وعدم ترسيم الحدود يشكل تهديداً ديمغرافيا يتجاوز الأرض المحتلة إلى الدول المجاورة، وذلك عن طريق التهويد وضم الأراضي بالقوة والتوسع فيها كلما سنحت الفرصة للتهجير والتطهير في الداخل وزيادة المجال الحيوي على حساب الخارج.
والواقع أن الهدف البعيد للاسيتطان يعني الانقلاب الديمغرافي المتمثل في التخلص من العرب وتوطين اليهود مكانهم على هيئة هجرات وموجات سكانية وفقاً للمشروع الصهيوني الذي يعتبر أن تحديد الحدود هو المكان الذي يتواجد فيه اليهود مع الربط بين الاستيطان والأمن باعتبار كل منهما يخدم الآخر.
وتوطين الأغلبية اليهودية على الأرض الفلسطينية يمثل الشغل الشاغل بالنسبة للحركة الصهيونية في السابق، وكذلك قادة الدولة اليهودية في اللاحق حيث يعتبر هذا الهدف من أهم أهداف المشروع الصهيوني الذي يتحكم في السياسات اليهودية في سبيل الحرص على أن يميل الميزان الديمغرافي لصالح اليهود في فلسطين، الأمر الذي يستدعي جلب المهاجرين اليهود إلى الأرض المحتلة واستيطانهم فيها، وفي الوقت نفسه ارتكاب المجازر في حق الفلسطينيين وإخضاعهم لعمليات التهجير القسري والتطهير العرقي كما هو الحال الآن.
وبما أن الكيان الصهيوني يربط بين المستقبل والعامل الديمغرافي الذي يعتمد عليه بالبقاء والتوسع حسب المخطط المرسوم فإن الأفكار الوطنية ومحاور النقاشات الجدلية التي تجري بين السياسيين والأكاديميين وعلى المستوى الشعبي عادة ما تدور حول عبارات تصب في اتجاه واحد تتمثل في الخطر الديمغرافي والتهديد الديمغرافي وتحسين الميزان الديمغرافي والقنبلة الديمغرافية.
وقد عملت الدولة العبرية ما بوسعها في سبيل جلب اليهود من كل مكان والمحافظة على التفوق الديمغرافي حيث سنت القوانين وعملت التشريعات وسهلت الإجراءات التي بموجبها يحصل التفوق الديمغرافي المطلوب، وفي المقابل عملت على إرغام العرب على المغادرة والتضييق عليهم ومصادرة أراضيهم بالقوة وإحلال اليهود محلهم.
والكيان الصهيوني منذ نشأته يحاول تتويج الاستيلاء على الأرض باستيطانها وتغيير ديمغرافيتها معتمداً على هجرة اليهود من مختلف أنحاء العالم لإحلالهم محل الفلسطينيين، باعتبار أن هذه الاستراتيجية تشكل حجر الزاوية بالنسبة للمشروع الصهيوني وضرورة وجودية لهذا الكيان الذي يرى في توقف الهجرة ومعاكستها تهديداً وجودياً.
وقد استفحل التأثير وزاد التكتل الاستيطاني في المناطق المحتلة بعد حرب عام 67م، مما يكشف أن السياسات الصهيونية والتغييرات الديمغرافية على أشدها في فلسطين، كما زادت وتيرة الاستيطان بعد اتفاق أوسلو بصورة تؤكد أن دولة الاحتلال الصيهوني تسابق الزمن في التغيير الديمغرافي والتضييق على الفلسطينيين أينما كانوا، وبالتحديد في الضفة الغربية التي تعتبرها عمقاً استراتيجياً ومطلباً أمنياً.
والهجرة العكسية هي أكثر ما يزعج الكيان الصهيوني لكونها تخل بالميزان الديمغرافي وتقف حجر عثرة في وجه تنفيذ المشروع التوسعي وتأتي هذه الهجرة نتيجة للتحولات الديمغرافية والأيديولوجية في المجتمع اليهودي الذي يعاني من سيطرة التيار الديني واليمين المتطرف، مما أدى إلى اتساع الشرخ المجتمعي وتنامي ظاهرة الهجرة العكسية وتصاعدها بسبب تفاقم أزمة الحكم والصراع على هوية الدولة وتراجع الأوضاع الاقتصادية واستفحال التوتر الأمني.
ونقص مصادر الهجرة ومعاكستها تمثل إشكالية وجودية بالنسبة للدولة العبرية التي قامت على الاحتلال والاستيطان والاستعمار وفرض الأمر الواقع بالقوة العسكرية، كيف لا والكيان الصهيوني يعاني من انخفاض في معدلات الهجرة إليه ومعاكستها علاوة على ما يمر به من تحديات داخلية وخارجية وما يعيشه من أزمات أمنية واقتصادية واجتماعية ذات تأثير سلبي على الوطنية والمواطنة المصابة بخلل في الهوية وصعوبة في الاندماج.
وعلى ضوء التداخل بين العامل الجغرافي والعامل الديمغرافي وخدمة كل منهما للآخر فإن الدولة العبرية تنظر إلى الصراع من منظور وجودي أكثر منه حدودي حيث ترى أن بقاء أي فلسطيني على أرضه هو تهديد وجودي لها، مما يحتم عليها نفي الديمغرافية الفلسطينية وإحلال الديمغرافية اليهودية محلها مهما طال الزمن وكان الثمن.
وما ترتكبه الدولة العبرية في غزة من إبادة جماعية وتدمير للبنى التحتية، وما تمارسه في الضفة الغربية والأرض المحتلة من اغتيالات ممنهجة والزج بالفلسطينيين في السجون، كل ذلك يُشكل تمهيداً للتهجير القسري والتطهير العرقي بما يخدم التوسع الجغرافي والتغيير الديمغرافي نظراً لأن الدولة المحتلة تنظر إلى الضفة الغربية بأنها عمق استراتيجي ومطلب أمني وتنظر إلى غزة بأنها المنطلق الذي ينطلق منه مشروعها التوسعي وزيادة مجالها الحيوي واستقرار أمنها القومي.