أ.د.عثمان بن صالح العامر
لولا الشر ما تميز الخير، ولا عُرف الخيرون شامة بين الناس، ولولا الجوع لما ذاق الإنسان لذة الشبع، ولولا الفقر ما كان الغنى مزية ونعمة، ولولا الغربة لم تعرف قيمة الوطن، ولولا الحرب ما كان للسلم طعم، ولولا الخوف ما قدّر الإنسان قيمة الأمن، ولولا الأمراض ما أدركنا قيمة العافية ولا عُرف ثمن الصحة، وما أروع قول من قال (الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى).
نعم تعددت الأمراض، وتنوعت الأدواء، وكثرت العلل التي تعتري الجسد، البعض منها وجد له علاج، والآخر علاجه الصبر والاحتساب انتظاراً لساعة الموت وفراق هذه الحياة رغم تقدم الطب وتعدد مدارسه وكثرة معامله ومؤتمراته وأبحاثه وتخصصاته.
العافية لا ثمن لها ولذلك كانت الوقاية السبيل الأمثل للتمتع بهذه النعمة العظيمة ومنة الرب الكبيرة، يرافق ذلك ويلازمه دعاء الله عز وجل العافية.
والعافية ليست سلامة الجسد وصحته فحسب بل حتى الروح تمرض وتتعرض للبلاء والفتن كما هو معلوم وينشد العقلاء عافيتها وصحتها، وشهر رمضان المبارك هو الفرصة الأثمن لإجراء فحص شامل للروح ومعالجة ما قد يكون من هنات وزلات روحية بالقرآن الكريم الذي جعله الله شفاءً لما في الصدور أولاً ثم السنة النبوية والذكر والاستغفار.
يقول الإمام ابن القيم في كتابه «مدارج السالكين»: .. لا شيء أحق أن يفرح العبد به من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظة وشفاء الصدور من أدوائها بالهدى والرحمة... وبما آتاها ربها في القرآن من الهدى الذي يتضمن إثلاج الصدور باليقين وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه وحياة الروح به، وبما آتاها من الرحمة التي تجلب لها كل خير ولذة وتدفع عنها كل شر وألم.. ومصداق ذلك قوله تعالى: (ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين. قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)، ويقول تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ )،.. قال الإمام القرطبي في تفسيره: (.. أي شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الريب وكشف غطاء القلب من مرض الجهل لفهم الأمور الدالة على الله تعالى.. وقيل شفاء من الأمراض الظاهرة..)، وقال الإمام ابن كثير: (.. أي يذهب ما في القلوب من أمراض..).
سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله ذهب إلى أبعد من ذلك إذ يقول رحمه الله: «إن الله جل وعلا ما أنزل داءً إلا وأنزل له شفاءً، علمه من علم وجهله من جهل، وأن الله سبحانه وتعالى جعل فيما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة - العلاج لجميع ما يشكو منه الناس، من أمراض حسية ومعنوية، وقد نفع الله بذلك العباد، وحصل به من الخير ما لا يحصيه إلا الله عز وجل».
ومما جُرِّب في العلاج من الأمراض الحسية بالقرآن: كتابة بعض آياته في ورق، وجعله في ماء، والاستشفاء بذلك الماء: قال ابن القيم رحمه الله: «ورخص جماعة من السلف في كتابه بعض القرآن وشربه، وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه.
ومن ذلك كان يكتب لعلاج عسر الولادة على ورق طاهر وتوضع في إناء نظيف قول الله عز وجل : {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}، وتشرب منه الحامل ويُرش على بطنها.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكتب على جبهته إذا أصابه الرعاف: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}. وسمعته يقول: كتبتها لغير واحد، فبرأ. فقال: ولا يجوز كتبتها بدم الراعف كما يفعله الجهال، فإن الدم نجس، فلا يجوز أن يكتب به كلام الله تعالى.
ولوجع الضرس كان يكتب على الخد الذي يلي الوجع: بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ}. وإن شاء كتب: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وللخُرّاج يكتب عليه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}.
نعم إن القرآن شفاء كما قال الله عز وجل عنه ولكن بشرط وجود اليقين، والعزم وصدق اللجوء إلى الله تعالى، ثم اعتقاد أن الشفاء من عند الله رب العالمين، وبمشيئته، وقدره، ولا يعني ذلك الدعوة لترك التداوي وبذل الأسباب وطلب العلاج من الأطباء أهل الاختصاص بعد الله، فهم ممن سخرهم الله ليكون شفاؤه سبحانه وتعالى للمرضى على يدهم، حفظ الله الجميع ورزقنا الصحة والعافية، وشهر مبارك على الجميع ، وإلى لقاء والسلام.