عبدالوهاب الفايز
الذين يهمهم وضع التنمية الإدارية في المملكة، يرقى تطلعهم إلى رؤية معهد الإدارة العامة أن يتحول إلى شيء جديد متميز يواكب المرحلة التنموية التي يشهدها وطننا الغالي.
فالمعهد مضى على تأسيسه أكثر من 60 عاماً، ساهم خلالها بدور متميز في التنمية الإدارية، ليس فقط على المستوى الوطني.. بل حتى على النطاق الخليجي والعربي والإقليمي والدولي. فمنذ تأسيسه عام 1961م اكتسب الكثير من الخبرات والتجارب الثرية ويعد صرحاً وطنياً، وهذا الإرث يستلزم الحرص على مكتسباته بالسعي إلى تجديد (خلاياه الجذعية) قبل أن يشيخ وتخور قواه.
لإطلاق هذه الروح الجديدة.. نحتاج إخراج المعهد من نطاق التدريب والتحول إلى مؤسسة وطنية مستقلة متخصصة بالتنمية الإدارية، وتحديداً ما يتعلق بنشاطات البحث والاستشارات والنشر والتوثيق والمعلومات. والأفضل حصر النشاط التدريبي وربطه في تأهيل الكوادر القيادية للقطاع العام، كما تفعل كليات القيادة والأركان للقطاع العسكري. وأن ترعى هذه المؤسسة مركز فكر لـ(الدراسات وصنع السياسات الإدارية والتنظيمية) ليساهم في طرح ومناقشة القضايا المتصلة وبلورة الحلول والمقترحات والخطط لتجاوز ما قد يواجه المسيرة التنموية من عوائق.
والسؤال: لماذا تقليص النشاط التدريبي لدى مؤسسة التنمية الإدارية المقترحة؟
لأن القطاع الحكومي تغيرت كثيراً ملامحه وأهدافه وقدراته واحتياجاته البشرية.
فالإدارة العامة بالآليات والطرق والموارد البشرية والإمكانات التي عرفناها في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، انعدم حضورها وتأثيرها الآن في القطاع العام. فلدينا الآن أجهزة حديثة لديها استقلالها المالي والإداري، وتتطلب نوعية جديدة من الموظفين، وتحتاج منظومة عمل غير نمطية لإدارة الموارد البشرية.
وأيضاً لدينا توجّه متسارع نحو برنامج التخصيص، مما سوف يقلص دور الأجهزة الحكومية في إدارة الخدمات العامة. وهكذا فالطلب لن يكون عالياً على تدريب الموظفين على مهارات ومعارف الإدارة العامة التقليدية التي عرفها القطاع العام.
أيضاً العرض المتاح لنشاط التدريب واسع، فالتدريب يتوفر لدى الجامعات ومراكز التدريب بالمؤسسات العامة، ومراكز القطاع الخاص، كل هذه توفر قدرات وإمكانات تدريبية متميزة.
المؤكد أن نمو وتوسع القطاع العام سوف يجعلنا دوماً في حاجة لتهيئة وصقل الكوادر القيادية في القطاع، وبأسلوب عملي مُحوكم في الإعداد والاستقطاب، وخاضع لمعايير ومستهدفات وطنية تراعي احتياجات التنمية ومصالح الدولة العليا.
وجود الآليات المنظمة المستمرة لن تجعل قيادات الأجهزة الحكومية خاضعةً لظروف اللحظة وإدارة الأزمات حين الرغبة في استقطاب القيادات.
وعملية الاستقطاب والتوظيف للقيادات مهمة احترافية الأسلم والأولى أن تتولاها مؤسسة التنمية الإدارية المقترحة.
هذا المسار للتوظيف سوف يخدم أحد الأمور الملحة والضرورية لتحقق كفاءة الجهاز الحكومي وهو ضرورة إعداد القادة والمدراء الذين لديهم القدرة الكافية لتحقيق النجاح الذي نتطلع إليه. إعدادهم لكل المتطلبات المعرفية للقيادة، وتنمية المهارات المساعدة مثل التواصل والتعامل الإعلام، وفنون القيادة مثل الذكاء الاجتماعي والعاطفي وغيرها.
في السنوات الماضية وأمام إلحاح الحاجة لشغر مواقع قيادية وإدارية كثيرة، وجدنا قيادات ذات تأهيل جيد تنتقل للقطاع العام، ولكن ليس لديها المعرفة الضرورية بمتطلبات الإدارة الحكومية وآدابها وأعرافها، وليس لديها الفهم للبيروقراطية العميقة، وأيضاً لم تخضع لبرامج متخصصة ذات محتوى معرفي وطني لإعداد القادة. وهذا تولد عنه حركة دخول وخروج سريعة وواسعة للقيادات في المستويات العليا، وترتب على هذا ظهور ظاهرة تنقل القيادات بين الأجهزة الحكمية مما أدى إلى تضخم الرواتب والمميزات المالية بصورة كبيرة. وكان لهذا آثاره المباشرة على تأخر بعض المشاريع والمبادرات.
أيضاً المؤسسة المقترحة سوف توجد الآلية لتوثيق تاريخ وتطور الإدارة السعودية، فلدينا قصص نجاحات وإخفاقات في إدارة التنمية في العقود الماضية. هذه توفر مادة ثرية تساعد على نقل التجارب، وتراكم الخبرات، وتوفر الأرشيف الوطني الذي يثري الأبحاث العلمية والدراسات المستقبلية ويخدم حاجتنا للاستشارات المالية والإدارية والتنظيمية، الذي يفترض أن يعد النشاط الرئيسي لمؤسسة التنمية الإدارية المقترحة.
ومسار الدراسات والاستشارات الذي يتوجب أن يكون النشاط الرئيس لمؤسسة التنمية الإدارية، يمكن أن يكون نواة لإطلاق (شركة وطنية متخصصة كبرى) مستقبلاً تتولى جانب الاستشارات الإدارية والمالية للقطاع العام وللشركات والمؤسسات الحكومية حتى تنافس الشركات الاستشارية الدولية.
والدعوة لمثل هذه الشركة سبق اقتراحها في مقال هنا (الجزيره، 20 ديسمبر 2017) لاستيعاب المخاطر الوطنية المترتبة على التوسع في طلب خدمات الاستشارات من الشركات الأجنبية.
في ذلك المقال قلنا بالنص: (ربما الحل المستدام هو في (إنشاء كيان استثماري وطني)، يتولى إجراء الدراسات والبحوث التي يحتاج إليها القطاع العام. وصندوق الاستثمارات العامة ربما هو الجهة التي يمكن أن تتبنى إنشاء هذا الكيان، ويكون بمساهمة الجهات التي لها خبرة في هذا المجال، مثل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، والجامعات السعودية، ومعهد الإدارة العامة، ومراكز الأبحاث الوطنية المتعددة في الأجهزة الحكومية وفي القطاع الخاص).
مثل هذه الشركة الاستشارية الإدارية الوطنية النوعية، ستكون ذراعاً للقطاع العام كما هو حال شركة الاستشارات القانونية التي نحتاجها ضمن برنامج دعم الإدارات القانونية في الأجهزة الحكومية الذي أجازه مجلس الوزراء مؤخراً. لقد سقنا الأماني والأحلام لدعم هذا البرنامج بإنشاء مركز أبحاث وصنع سياسات قانوني سعودي يكون نواة لـ(شركة استشارات ودراسات كبرى) تعمل على إثراء مدخلات صناعة القرارات الوطنية حتى نقلص للأبد الاعتماد الشركات الاستشارية الأجنبية.
وقلنا نحتاج هذه الشركة حتى نؤصل ونوثق الرحلة والتجربة الصعبة في بلادنا لتطوير الأنظمة والقوانين، وتعمل كذلك على تدوين مساهمات الرواد من أصحاب الفضيلة الفقهاء ومن القانونيين الكبار الذين وضعوا القواعد والأصول القانونية التي انبثقت من الشريعة الإسلامية، ومن أدبيات الحكم، ومن خصوصيات المجتمع السعودي.
ختاماً، الذي يهمنا هو بقاء الموروث الكبير لمعهد الإدارة العامة الذي تجمع وتكرس في العقود الماضية، فالمعهد ثروة وطنية يُفترض المحافظة عليها، والبناء على مكتسباتها حتى لو كان ذلك بصورة جديدة وبواقع جديد.