خالد بن عبدالرحمن الذييب
جاء رجل اسمه فيدوس إلى سقراط، واستظل تحت شجرة باسقة أمام جدران أثينا، وبدأ في محاولة تلاوة خطبة لشخص يدعى «سولياس» كان «فيدوس» معجباً فيها تماماً، وبدأ بإلقاء الخطبة، استوقفه سقراط، وقام من مكانه، ومد يده إلى معطف فيدوس قائلاً: لن أسمح لك أن تجرب مواهبك في الخطابة لديّ عندما يكون لوسياس نفسه في معطفك!
كان سقراط يعلم أن هذا الشاب المتحمس كتب الخطبة وأراد أن يلقيها أمامه عن ظهر قلب، ولم ترق لسقراط هذه الحيلة، وهو الفيلسوف المؤمن بأن «المشافهة» هي خير وسيلة لنقل العلوم والأفكار والفلسفات القديمة والحديثة.
تابع سقراط قائلاً: في أحد الأيام زار الإله المصري «ثوث» مخترع علم الهندسة وعلم الفلك والكتابة، الملك المصري وقدّم له هذه الاختراعات ليقدمها بدوره لأبناء الشعب، وأثناء مناقشة منافع ومضار هذه العطايا الإلهية، وصل «ثوث» إلى الكتابة، وقال عنها: «إن هذا فرع من التعلّم سيحسن ذاكرة شعبك، إن اختراعي وصفة تخدم الذاكرة والحكمة».
إلا أن الملك المصري، كان أقوى من آلهته، إذ استطاع أن يرد على ذلك قائلاً: عندما يحصل الناس على هذه المقدرات ستزرع النسيان في قلوبهم، وسيتوقفون عن تدريب ذاكرتهم، لأنهم سيعتمدون على الأشياء المكتوبة، ولن يعودوا قادرين على استحضار ما في ذاكرتهم من أمور، إن ما اخترعته ليس وصفة للذاكرة، وإنما للتذكر».
قال سقراط محذراً لفيدوس: إن القارئ يكون ساذجاً للغاية عندما يظن أن الكلمات المكتوبة يمكنها أن تفعل أكثر من مجرد التذكير بما يعرفه على أي حال»
سقراط كان عجيباً، إذ وافق الملك وخالف الآلهة في هذه القصة ...
يقول الراوي:
لماذا نعتبر سقراط «هنا» رجعياً؟!
سقراط لم يكن مجرد خصمٍ لفكرة الكتابة، ولكنه كان خصماً للتقنية، فالقلم من أعظم التقنيات التي ظهرت في التاريخ، منذ نشأة الكتابة، إلا أن سقراط كان يعارضها. محظوظ أنت يا سقراط، لأنك لو قلت رأياً كهذا الآن لما أصبحت فيلسوفاً، بل قيل عنك مفكر رجعي، ولن نلوم أنفسنا على ذلك، فلولا هذه الكتب والتناقل المعرفي عبر القلم لما عرفناك ولا سمعنا عن فيلسوف اسمه سقراط.
ومع ذلك لا أعارض فكرة أن التقنية - أحياناً - لها جوانب سلبية، فكما أنك لم تكتب كتاباً في حياتك، فكاتب هذه السطور ليس لديه إلا مدونة لم يكتب فيها حرفاً ...
أخيراً ...
ربما يأتي يوم ويُقال فيه: هل تصدق أن خالد الذييب ذاك «المفكر العظيم» ليس له مدونة؟!...
هل ممكن ذلك يا سقراط؟!...
ما بعد أخيراً..
استيقظ سقراط من مرقده وقال: دثروني، دثروني... بلا كلام فاضي.