أ.د.عثمان بن صالح العامر
كان المشهد الذي صاحبني منذ كان عمري أربع سنوات عام 1390هـ صورة جدتي موضي -رحمها الله- وهي تفتح مصحفها الكبير المجلد بغلاف أخضر جميل مطرز باللون الذهبي الساطع وفِي وسطه ريشة نعام سوداء ممزوجة باللون الرمادي اتخذتها موقفاً لها عندما تنتهي قراءتها التي اعتادتها كل يوم، وكان لهذا المصحف قداسته ومنزلته العالية لدى جميع من في البيت، ولذلك فهو يوضع في رفٍّ مرتفع بعد أن يدخل في بقشة من القماش خيطت خصيصاً له وبأحد أطرافها حبل يشد عليه مرتين أو ثلاثاً حتى لا ينفك.
لم أكن أعلم حينها أنها أمية لا تعرف القراءة والكتابة قطعياً إلا حين كبرت ورأيت غيرها كثيراً ممن يقرؤون القرآن الكريم وهم لا يعرفون الحرف العربي، سواء من كبار السن أو الأعاجم الذين لم يدرسوا العربية، وهذا لون من ألوان الإعجاز القرآني الذي قال الله عنه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}. لقد أخبرتني والدتي - أطال الله في عمرها- أن جدتي هذه - محل الحديث- كانت قد درست القرآن الكريم والعقيدة الإسلامية وأحكام الصلاة وغير ذلك مما يهم المرأة المسلمة مع مجموعة من نساء القرية على يد امرأة سعودية كفيفة اسمها عائشة المجاهد قدمت لقريتنا مع أخيها من العاصمة الرياض واستقر بها المقام بيننا حتى توفاها الله - رحمهن الله جميعاً-، ولَم يكن هذا الأمر مقتصراً على القرية التي ولدتُ ونشأت بها، بل كانت الكتاتيب النسائية موجودة في عدد ليس بالقليل من المدن والقرى المتحضرة كما وثق شيئاً من ذلك مؤرخو تلك الحقبة التاريخية في بلادنا المباركة المملكة العربية السعودية.
إن حق هذه الأسماء النسائية الرائدة أن يُعرف بهن وتخلد مآثرهن وتقرأ سيرهن فهن من بذلن وقتهن تطوعاً لتعليم الفتاة ما فيه حياة القلوب وسعادة الدارين وسلامة البناء الأسري واستقرار المجتمع وأمنه مع أن الزمن كان زمن الفقر والمسغبة والظروف لم تكن مواتية لهن للتعلم والتعليم كما هو الحال اليوم. لم ينتهِ المشهد بعد، إذ ظلت المرأة السعودية وما زالت ولله الحمد والمنة تولي القرآن الكريم جل اهتمامها وعنايتها في هذه البلاد المباركة التي فتحت لها المدارس المخصصة لتحفيظ القرآن الكريم وجعلت مكافأة شهرية للطالبة نظير حفظها لكتاب الله، وسمحت بإنشاء الدور النسائية تحت إشراف وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد التي استفادت منها بفضل الله وتوفيقه نساء وفتيات كثيرات في جميع مناطق المملكة، والفتاة السعودية اليوم تشارك في جميع مسابقات القرآن الكريم المحلية التي يتنافس فيها الحفظة على الفوز، خاصة جائزة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان المحلية لحفظ القرآن الكريم وتلاوته وتفسيره، حتى ذوات الاحتياجات الخاصة ينافسن في ميدان الحفظ للقرآن الكريم.
هذه هي المرأة السعودية الجدة والأم والأخت والبنت دستورها القرآن الكريم وحصنها وسر نجاحها في إسعاد زوجها وتربية أبنائها وتحقيق أحلامها منهج الإسلام الوسطي السديد الذي قامت عليه هذه البلاد المباركة وظلت وستظل محافظة عليه إلى الأبد بإذن الله، ولم تمنعها محافظتها على دستورها الخالد القرآن الكريم ومنهجها الوسطي القويم من الإبحار في مختلف العلوم والمعارف وانخراطها في ميادين الحياة المختلفة بل علو كعبها على بنات جنسها شرق الدنيا وغربها شمالها وجنوبها ولله الحمد والمنة. حفظ الله قادتنا وولاة أمرنا، وأدام عزنا، ووفق علماءنا ونصر جندنا وجمع كلمتنا ووحد صفنا في وجه كل عدو لبلادنا المباركة المملكة العربية السعودية، ووفق زوجاتنا وأخواتنا وبناتنا إلى ما فيه صلاح الحال وفلاح المآل، ودمت عزيزاً يا وطني وإلى لقاء والسلام.