عبد العزيز السبيل
بدأ محمد الشارخ (1942-2024)، رحمه الله، رحلته الدراسية في تخصص الاقتصاد والعلوم السياسية من القاهرة، وأكملها بدراسة الماجستير في التنمية الاقتصادية من أمريكا، وانعكست هذه الدراسات على تجربته العملية التي بدأت بعمله نائبا للمدير العام للصندوق الكويتي للتنمية، ثم عضوا في مجلس إدارة البنك الدولي للإعمار والتنمية في واشنطن.
هذه الدراسات والتجارب العملية أطلعت الشارخ مبكرا على أحوال العالم الأقل حظا في التنمية، ومنحته رؤية أشمل لهذا الواقع، مما خلق لديه شغف الرغبة بتطوير المجتمعات العربية الإسلامية، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. كان مسكونا بهموم أمته، متطلعا إلى تنميتها، والنهوض بحاضرها، والاستفادة من تقنيات العصر الحديث، ومعطيات الدهر الحاضر.
وبالنسبة للثقافة، حمل محمد الشارخ رسالة سامية وهما إسلاميا عربيا، وشغفا فكريا في تأصيل الثقافة الإسلامية والاهتمام بكنوزها، ونقلها من الأضابير الصفراء التي تحتاج إلى جهد كبير، وزمن طويل، للاطلاع عليها واكتشاف أسرارها، والانتفاع بها، إلى عوالم التقنية العصرية. وبذلك انتقلت إلى عالم يشع بالضوء والمعرفة، ويجعلها متاحة للجميع، زمنيا ومكانيا.
بدأ الشارخ مشروعه الطموح برقمنة اللغة العربية وقواعدها نحوا وصرفا. وقام بإنتاج أول برنامج حاسوبي للقرآن الكريم وكتب الحديث التسعة باللغة الإنجليزية، وتحديث أرشيف المعلومات الإسلامية الذي يضم بالإضافة للقرآن الكريم، موسوعة الحديث الشريف، وموسوعة الفقه الإسلامي، وبرامج، وقواعد معلومات إسلامية أخرى، وجهوده في تعريب وإنتاج برامج الحاسوب منذ عام 1982، ومعجم إلكتروني معاصر للغة العربية، وبرنامج المصحح اللغوي، والنطق الآلي بالعربية الفصحى، والترجمة الآلية، وتطوير نظام إبصار للمكفوفين. يضاف إلى ذلك تطويره للعديد من البرامج الثقافية، والتعليمية للناشئين، والخاصة باللغة العربية والثقافة الإسلامية. وبذلك منح جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام للعام 2021.
بكمبيوتر صخر، دخل الشارخ التاريخ بكونه أول من أدخل اللغة العربية إلى عالم التقنية من أوسع الأبواب، بعد ما كان كثيرون يجزمون بصعوبة ذلك. وتمكنت الأمة العربية من مواكبة عصر التقنية بلغتها وتراثها وتاريخها.
لم يقف الشارخ عند حد العمل التجاري المتمثل في بيع الأجهزة والبرامج العربية في شتى العلوم، بل عمل على إنشاء مراكز للتدريب والبرمجة منذ ثمانينات القرن الماضي، وتدريب أعداد كبيرة من المتعلمين، عبر إنشاء معاهد حاسوبية جعلت العرب وثقافتهم تواكب العصر التقني.
تبنى وساهم في العديد من المشاريع القومية العربية الثقافية، منها مشروع «كتاب في جريدة» الذي استمر لسنوات عبر منظمة اليونسكو. وقد ساهم هذا المشروع بدور إيجابي في حضور الإبداع العربي عبر كامل الخريطة الجغرافية العربية، من خلال وسائل حديثة متاحة للجميع. ومنها أيضا دعمه لمركز الوحدة العربية الذي عرف بإصدارتها الثقافية والفكرية، ودعمه للمنظمة العربية للترجمة ذات الصلة بالمركز.
ولعل من أهم مشاريعه التي تمثل إبداعا في الرؤية والتوثيق، والمحافظة على التراث العربي مشروع «إرشيف صخر/ الشارخ للمجلات الأدبية والثقافية العربية» الذي بدأ من المجلات الصادرة منذ العام 1880، حتى العصر الحاضر، وشمل رقمنة 273 مجلة عربية، بما يربو على مليوني صفحة، وجعلها متاحة لقراء العربية مجانا حيثما كانوا.
محمد الشارخ أديب أريب، يتعامل مع الكلمة بوعي، ومع اللغة باتساع أفق، ومع الثقافة بشمولية الرؤية. لم يكن قارئا نهما، ومتابعا متواصلا مع عالم الأدب فحسب، بل كان منتجا للإبداع. فقد كتب القصة القصيرة، وأصدر ثلاث مجموعات قصصية. الأولى «عشر قصص» (2006)، والثانية «الساحة» (2012) والثالثة «أسرار وقصص أخرى» (2017). وفي المجال الروائي أصدر رواية «العائلة» (2018)، التي عبر، من خلالها، عن كثير من رؤاه وأفكاره عن الواقع الاجتماعي والفكري والسياسي.
في مجالسه وأحاديثه، يفيض كلامه بالاستشهاد الشعري، مما يعكس ثقافة أدبية عالية. فمثلا، حين الحديث عن أفكاره ومشاريعه ومدى ثقته بنجاحها، يختصر ذلك بالاستشهاد ببيت بشار بن برد:
ترجو غدا، وغدٌ كحاملة
في الحي لا يدرون ما تلدُ
وعلاقته بالتاريخ والفنون انعكست فيما كان يقدمه لإصدقائه من هدايا. إحداها مثلا تمثال ذهبي صغير لغزال، مستوحى من الأصل المصري القديم، الموجود حاليا بمتحف المتروبوليتان في نيويورك. ويعود هذا التمثال إلى فترة العمارنة القديمة ما بين 1317 و 1339 قبل الميلاد.
كان محمد الشارخ رجلا طموحا، لا مستحيل لديه، تتضاءل أمامه الصعوبات، فيحفر بالصخر، لينتج عطاء ثقافيا سخيا، وكأنه المعني بالشطر الثاني من بيت أبي الطيب المتنبي:
وتعظم في عين الصغار صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
وإذا كان الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى قد قال:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانية حولا لا أبا لك يسأم
فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لمحمد الشارخ. في ثمانينه، كان لديه طموحات كبيرة، وأفكار كثيرة. ورغم ظروفه الصحية، كان يسافر ويمتطى الطموح والإنجاز، وتمتلئ جعبته بالكثير من المشاريع التي أرجو أن تتواصل عبر أبنائه ومساعديه.
رحم الله الأستاذ محمد الشارخ، وتغمده بواسع مغفرته، وأمطر عليه من شآبيب رضوانه.