كفى بالموت واعظًا، فليس هناك أعظم وقعًا وتأثيرًا من الموت، خصوصًا إذا أصاب ووقع في غالٍ عليك، فبالأمس ودعت أسرتنا من هي في مقام أمٍّ لنا.. المرحومة -بإذن الله- زينب بنت منصور المالك (أم صالح).
ولمقولة اذكروا محاسن موتاكم، فالذكريات مع الفقيدة الغالية تعود بي إلى الوراء منذ أكثر من خمسين عامًا مضت، فقد كتب الله طلاق والدتي من والدي حفظهما الله، فذهبنا مع أمي المطلقة آنذاك من مدينة الرس لبيت جدي لأمي في مدينة بريدة، كعادة أي مطلقة في زمانها، حيث تأخذ الأم المطلقة أولادها الصغار وتذهب بهم معها لأهلها، عشنا فيه زمنًا، ومن ثم تزوجت أمي من ابن عمي في الرس فاضطررنا للعودة إلى مسقط رأس أسرتي في مدينة الرس.. وهذه بداية ذكرياتنا مع الإنسانة الطيبة الطاهرة المرحومة -بإذن الله- أم صالح، زوجة المرحوم عمي عبدالله رحمه الله، وهو شقيق أبي، وبوجود جدتي لأبي رحمهم الله جميعًا.
* * *
لا زال عالقًا بذهني مشهد أول لقاء لي بالمرحومة أم صالح، فعندما رأتنا أنا وأختي وأخي ندخل بيتها وهي تبتسم وتنادي جدتي فرحة بأعلى صوتها «يا خالة يا خالة.. أبشري بعيال سليمان!» تلك الابتسامة والتحية ظهرت من قلب أبيض ونفس طيبة مسرورة. استقبلتنا مع عمي -رحمهم الله- أجمل استقبال وكانت هذه اللحظة بداية لأجمل سني الطفولة التي عشناها في بيتها بين أبنائها وزوجها العم عبدالله وجدتي هيا رحمهم الله.
* * *
ولا أذكر يومًا وجود فوارق في تعاملها بيننا وبين أولادها، كان عمي -رحمه الله- أبًا لنا جميعًا، وكانت هي أمًا للجميع؛ أقصد أبناءها وأبناء عمي من زوجته الأولى وأنا وشقيقي وشقيقتي، فقد كنا ننعم جميعًا بحنان الأم بوجودها، وهي أمنا التي لم تلدنا، توقظنا كل صباح للذهاب للمدرسة، تهتم بلبسنا وأكلنا، وحريصة كل الحرص -رحمها الله- على صحتنا ومبيتنا فهي بكل ليلة تعد فرشنا وتتأكد من أغطيتنا..
فأي أم هذه التي كنا نعيش في بيتها؟
* * *
عاشت معنا في نفس البيت، عمتنا المسنة الكفيفة «فطيمة» رحمها الله، وعمتنا هذه لم يكن لها ذرية وكانت أم صالح بمثابة ابنتها التي لم تلدها، كم أشبعتها حبًا وحنانًا ورعاية وحديثًا. أما عن رعايتها لجدتي «أم زوجها» فحدّث ولا حرج. فقد كان منهجاً متكاملاً في الرعاية طبقته وعرفناه منها قبل ظهور أنظمة ودور رعاية المسنين.
* * *
تعلمت الكتابة والقراءة في بيتها وعلى يديها، وكانت أول سنوات دراستي وأنا أعيش في رعايتها. لم تكن تقرأ وتكتب ككثير من نساء زمانها، لكنها علمتنا مع ذلك حفظ سور القرآن التي تحفظها، فكانت مدرستنا الأولى.
* * *
ولأن الصعاب تصنع الإنسان، فقد مرت تلك المرأة الصالحة بظروف صعبة وقاسية صنعت منها ذلك الحب والحنان والشفقة والعطف. فقد ولدت يتيمة فلم ترَ أباها، وتزوجت أمها وهي صغيرة فعاشت طفولتها بعيدة عن والدتها. ولمحبة الله لها فقد سخر لها -رحمها الله- عمها الحنون «محمد» رحمه الله ليتكفل بتربيتها ورعايتها. ثم تزوجت وأنجبت وقدر الله لها أن تترمل بوفاة زوجها رحمه الله في عز شبابها لتطبق ما تعلمته في بيت عمها من رعاية الأيتام، فأصبحت الأم والأب لأبنائها وبناتها.
* * *
إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، هكذا كانت آخر سنوات عمرها بين المرض وضغوط الحياة. وكل هذا لم يفقدها بشاشتها وحبها للناس وحب الناس لها، وطيبتها وكرمها وصدقاتها، وكل خصالها الجميلة التي درّستها وورّثتها لأبنائها وبناتها ولمحبيها.
* * *
كانت رحمها الله مدرسة في التعامل والأخلاق وطيب المعشر. كان بيتها عامراً بكل الزوار والمحتاجين. وهبها الله البشاشة ومحبة الجميع. ويا لفرحتها بضيوفها وزائريها، وكانت كثيرة الاتصال والسؤال والاطمئنان على صحة الجميع.
* * *
حياتها لا يمكن أن تختزل بمقال، ولكنه شريط لبعض الذكريات يسجل بصدق ما لمست منها وعرفت عنها فكان هذا المقال المختصر.
* * *
عزاؤنا فيها أنها كانت ذات سيرة ومسيرة في الخلق وطيب المعشر، وحب الناس لها، واهتمامها بالفقراء والمعسرين، وانصرافها في حياتها إلى ما يرضي الله، وعزاؤنا بأبنائها وبناتها الذين وهبهم الله الكثير من صفاتها وصفاة والدهم رحمهما الله. ولها ندعو الله بالمغفرة والرضوان وعالي الجنان. ولأبنائها وبناتها وجميع الأسرة بالصبر والسلوان.
** **
- د. منصور سليمان المالك