محمد بن عيسى الكنعان
قدر المملكة العربية السعودية أن تكون قلب العالم الإسلامي النابض، وأن تكون مهوى الأفئدة، وقبلة المسلمين، والدولة التي تعيش في وجدان كل مسلم، فعلى ثراها الطاهر هبط الوحي، ومن أرضها المقدسة - مكة - أشرقت أنوار الرسالة المحمدية الخاتمة، التي انطلقت من الجزيرة العربية قبل 14 قرنًا بمشاعل الهداية تحت رايات التوحيد إلى كل أصقاع الدنيا؛ لذلك كانت هذه الدولة المباركة منذ تأسيسها عام 1727م على يد الإمام محمد بن سعود - رحمه الله -، وخلال مراحلها التاريخية على مدار ثلاثة قرون، وحتى توحيدها على يد المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود - طيب الله ثراه - وهي حاضنة للهمّ الإسلامي، وراعيةً للقضايا الإسلامية، وصاحبة المواقف المشرفة تجاه القضايا والمشكلات والأزمات التي تمر بالمسلمين، سواءً على مستوى الدول، أو الشعوب، أو الأقليات المسلمة بدول العالم، بل يكفي هذه الدولة أنها أول دولة مركزية نشأت في الجزيرة العربية بعد دولة الخلافة الراشدة، فأعادت للإسلام مركزه التاريخي ومنبعه الحضاري وبُعده العربي. لذا؛ من الطبيعي أن تهتم المملكة بكل ما يعزز وحدة المسلمين، وأن تتصدى لكل ما يفرقهم، فترعى المؤتمرات والملتقيات والمنتديات المخلصة ذات النية الصادقة، وتدعم المواقف الإقليمية والجهود الدولية التي تعمل لتحقق الوحدة بين الشعوب المسلمة، خاصةً في جانبها المذهبي، على المستويين العقائدي والفقهي، فالمسلمون لا تستقيم حياتهم، ولا ينشطون في بناء دولهم، ونفع شعوبهم، وبالتالي مساهمتهم في بناء الحضارة الإنسانية كحال الأمم الأخرى إلا من خلال معالجة أوجاعهم الخاصة، ومشكلاتهم الداخلية، وذلك بالتعاون والتفاهم فيما بينهم لتحقيق التوافق بالموقف الشرعي، والقضاء على كل بؤر التطرف الديني من شعارات وممارسات سلبية، وقطع الطريق على أسباب التعصب المذهبي المؤدي إلى الطائفية البغيضة، التي عصفت بأكثر من بلد عربي ومسلم تحت عباءة الإرهاب الذي تضرر منه المسلمون قبل غيرهم. من هنا تأتي أهمية (المؤتمر الدولي لبناء الجسور بين المذاهب الإسلامية)، الذي عُقد تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين - يحفظه الله - بتنظيم من رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، وخلال شهر رمضان المبارك الجاري؛ حيث شارك فيه كبار الشخصيات الإسلامية من مشايخ الإفتاء وكبار العلماء من مختلف المذاهب والطوائف الإسلامية، من خلال عدة جلسات ومحاور علمية، إلى جانب كلمات المشاكين ومداخلاتهم التي أثرت المؤتمر. هذا المؤتمر الذي يعتبر الأول من نوعه، يعكس الرغبة الصادقة لدى المشاركين من مختلف المذاهب والطوائف الإسلامية بوحدة الكلمة، وتعزيز الاعتصام بحبل الله بما يخدم مصالح الأمة، ويعالج أوجاعها التاريخية التي تتجدد بفعل التطرف الطائفي والتعصب المذهبي، بينما الواجب الإسلامي يكمن في البحث عن القواسم المشتركة بين المسلمين، فهم أهل كتاب واحد، ويتبعون نبياً واحداً، وتجمعهم قبلة واحدة، كما يُحتم السعي إلى تحقيق الأهداف المشتركة وبالذات في القضايا الإسلامية الكبرى، والابتعاد عن النزاعات التاريخية، والسكوت عن الخلافات المذهبية باعتبارها اختلافات دينية طبيعية، لأن هذا هو السبيل البيّن للوقوف في وجه خطابات التحريض المذهبي، أو شعارات التعصب الديني، التي تعبث بعقول دهماء المسلمين وتوجههم نحو الفرقة المؤدية إلى الفتن فيما بينهم لا قدر الله، وبالتالي تصرفهم عن عمارة الأرض التي هي مطلب رباني ومنهج إسلامي بصريح القرآن وهدى الرسول صلى الله عليه وسلم. لا شك أن توقيت هذا المؤتمر كان توقيتاً موفقاً، ورعايته من قبل المملكة العربية السعودية المعروفة بدعمها ونصرتها للقضايا الإسلامية كان له أكبر الأثر الإيجابي - بتوفيق الله - في تحقيق هذا المؤتمر لهدفه الأسمى المتمثل بوضع وثيقة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية، وهذا أول الخير في معالجة أوجاع الأمة الداخلية.