د. محمد بن أحمد غروي
تصدرت إندونيسيا لأعوام أربعة مؤشر العطاء العالمي الذي تصدره المنظمة البريطانية للمنظمات الخيرية المساعدة، بناءً على عدد من المعايير من بينها التبرع بالأموال ومساعدة الغرباء والتطوع. إندونيسيا استحوذت على نسبة 68 % مع تسجيل ثمانية من كل عشرة أشخاص تبرعوا بالمال، وستة من كل عشرة أشخاص يتبرعون بوقتهم. وبحسب المؤشر، فإن المؤسسات الدينية تعد ركيزة أساسية في انخراط الأفراد بالأعمال التطوعية خلال السنوات الخمس الماضية.
الثقافة الإندونيسية منحت شعبها حسًّا متناميًا واعتقادًا بمساعدة الآخرين من خلال التطوع والنظرة إلى المجتمع كعائلة إلى جانب تحسين العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع. تظهر هذه الروح في عدد من الجوانب من بينها خدمة المجتمع في الأعمال المجتمعية أو البيئية وغيرها، والاستجابة للكوارث والتشاور بين أفراد المجتمع.
تقرير المنظمة الدولية عزا تقدم إندونيسيا في العطاء والأعمال الخيرية والتطوعية إلى نزعة التبرع والمساعدة لدى الإندونيسيين والقيم المستقاة من الدين الإسلامي والتي تحث على التبرع والإنفاق إلى جانب مبدأ ذائع للغاية بين أبناء الشعب الإندونيسي يُعرف بـ»جوتونج ريونج- gotong-royong».
تعرف الثقافة الإندونيسية بثرائها وتنوعها، ذاك التنوع النابع من التعددية التي يشتهر بها الأرخبيل. لكن أحد المبادئ الرئيسية والتي تجعل من المجتمع الإندونيسي يتربع على صدارة العطاء مبدأ «جوتونج ريونج الذي رسخ العطاء بين أفراد المجتمع الواحد. وتعني»جوتونج رويونج» بالترجمة الحرفية «المساعدة المشتركة» أو «العمل المشترك». ويمثل المبدأ التزامًا من الفرد تجاه المجتمع، يتشارك فيه الأعباء كافة أفراد المجتمعات، ويدعم التضامن الاجتماعي بين الأفراد. كما تتفق الأديان المختلفة في إندونيسيا على هذا المبدأ، الذي يترسخ عميقًا في حياة الإندونيسيين.
تطور المبدأ الناشئ عند أهل منطقة جاوه ليصبح جزءًا من ثقافة المجتمع الإندونيسي متأصلًا في حياة سكان إندونيسيا، وأصبح أحى القيم الثقافية للمجتمع الإندونيسي. فيما تُمكن روح «جوتونج رويونج» الإندونيسيين من العمل معًا لحل أي نوع من المشكلات، كما يتمتع فيها كل أفراد المجتمع بالمساواة دون تفرقة بين دين أو عرق أو مستوى اجتماعي. ثقافة العمل المشترك السائد بين أفراد المجتمع في إندونيسيا يسهم في حل مشكلات الحياة اليومية للأفراد والتي يمكن أن تؤثر على الهوية الوطنية لإندونيسيا.
أربع ركائز أساسية تؤصلها الإنسان جزء من المجتمع، والبشر يعتمدون في جميع الجوانب على أقرانهم من البشر، وجوب الحفاظ على علاقات جيدة مع بعضهم البعض وأخيرًا أن يتسم أفراد المجتمع بالصدق مع بعضهم. ويشير بعض الباحثين أن هذا المبدأ يمثل فلسفة ثقافية لإندونيسيا، بينما يصفه البعض بكونه مركز قوة الثقافة الإندونيسية.
«جوتونج رويونج» هي طريقة للتكامل الاجتماعي والاهتمام بالمجتمع، باعتباره إستراتيجية لنمط العيش بين الأفراد وفي الممارسة ويشمل أي نشاط أو عمل خيري أو عمل مشترك للمساعدة في تحقيق الفوائد والمكاسب لجميع أفراد المجتمع وسعادتهم دون إجبار. ومن خلال ممارسة هذا المبدأ يصبح لكل فرد من الجماعة المشتركة دوره وواجباته. وتعمل العائلات الإندونيسية على نقل هذا المبدأ من جيل إلى آخر بحيث يصبح سمة معتادة لكل شخص في إندونيسيا.
بحسب مؤرخين يحكم تفاعلات المجتمع مع بعضه بما يظهر المساعدة المشتركة والتعاون المجتمعي باعتباره قيمة ثقافية إندونيسية. وبحسب دراسة عن البنك الدولي، يُحدِث مبدأ «جوتونج رويونج» الذي يدعم التضامن الاجتماعي تأثيرًا بارزًا في عملية التنمية بعدد من القطاعات منها التعليم بالنسبة للطلبة والمعلمين إلى جانب القطاع الطبي.
رغم ذلك هناك تخوّف من طغيان النزعة الفردية على مواطني إندونيسيا، نتيجة تفشي المادية والعولمة، لذا يحث الباحثون على الحفاظ على هذه القيمة الإندونيسية واعتبارها جزءًا من التراث الثقافي غير المادي لإندونيسيا لمنعها من الضياع أو الاندثار.
وبداخل ثقافة أهل جاوه، يكمن مبدأ آخر يستقي منه الإندونيسيون نزعة التكاتف والتعاون بين الأفراد. وعلى مر السنوات المختلفة، تَشارَك أفراد المجتمع في الثقافة الإندونيسية السعادة والشقاء سويًّا منذ قرون من خلال مبدأ يُعرف باسم «جويوب- Guyub» والذي يحمل أفراد المجتمع على المشاركة والتقارب سويًّا في تناغم ويمنح قيمة الإنسان ومكانته من التواصل مع الآخرين حوله.
ويتضمن مبدأ «جويوب» التشارك مع الآخرين لمساعدة أفراد المجتمع في أعبائهم من الناحيتين النفسية والمالية، فعلى سبيل المثال، يتمكن الأشخاص الذين يفقدون عملهم من الحصول على قوت يومهم من خلال تضامن الجيران أو الأقارب لرعايتهم، أو كما يمكن القول، يتألم كل فرد في مجتمع لآلام الآخرين ممن حوله. ومن ناحية أخرى، يقتضي المبدأ بمشاركة السعادة والفرح مع الآخرين.
الدراسات أشارت إلى ذيوع المبدأ التشاركي لدى الإندونيسيين إلى المجتمعات الزراعية الأولى التي كان يتشارك فيها الناس مبدأ الاستدامة من خلال التشاركية في المصادر مثل الأراضي والمياه. ويمتد المبدأ ليدخل في التصميم المعماري حيث تتسم كثير من بيوت الجاويين بغرفة أو غرف إضافية والتي تستخدم كمساحات إضافية لاستضافة الضيوف أو الفعاليات بين الجيران.
العديد من الأبحاث تؤكد قدرة البشر على تطوير علاقات اجتماعية قوية مع الأفراد يسهم في تحسين الصحة العامة للأشخاص بل ويحسن من جهاز المناعة ويدعم الثقة بالنفس لديهم ويطيل من أمد العمر، لذا تحقق مساعدة الآخرين والتواصل معهم فوائد عديدة للفرد.