د. عبدالحق عزوزي
أضحت البيئة الدولية المعاصرة أكثر ضبابية وأكثر تعقيداً وأكثر غموضاً من أي وقت مضى؛ «فوهن القوة»هو الطابع الذي يمكن أن نصف به هاته المرحلة الحاسمة من تاريخ البشرية، فالقوة بمفهومها التقليدي الكلاسيكي فقدت أكثر من معنى مع ازدياد الفاعلين في البيئة الدولية المعقدة..
فلم تعد بعض الدول القوية كالولايات المتحدة الأمريكية تتوفر على نفس الردع الاقتصادي والعسكري والحمائي، بل وحتى الثقافي كما كانت عندها في السابق، ولم يعد للثنائية القطبية أو الأحادية القطبية نفس المدلول مع صعود اقتصاديات الدول الآسيوية واتساع رقعة الأزمة المالية العالمية والتنافس التجاري العالمي، وتنامى الإجرام العالمي وعولمة الخدمات وتنامى دور الأفراد في العلاقات الدولية. فكثيرة هي الأسئلة التي يمكن طرحها في هذا الباب: فأما السؤال الأول فيرتبط بقدراتنا الخاصة على قراءة العلاقات الدولية التي أصبحت جد معقدة.
وأما السؤال الثاني فيخص التمييز الذي أمسى أكثر فأكثر غموضاً بين ما قد يرتبط بالمجال العقلاني والمجال اللا عقلاني. وهنا دور الإستراتيجية ودور الإستراتيجيين في هذا المجال البيئي المحلي والجهوي والدولي المعقد.
وكلمة الإستراتيجية تحمل في مدلولها اللاتيني Stratos أي الجيش وageîn أي إدارة وتعني علم وفن إدارة مجموعة قوى الأمة في الجانب السياسي والحربي والاقتصادي والمعنوي لقيادة حرب أو إدارة أزمة أو الحفاظ على الأمن.. وفي معناها العام توحي الكلمة إلى صياغة السياسة تماشياً مع مجموع القوى المتوفرة والرهانات والإمكانيات، وليس حصراً في المجالات العسكرية أو الدفاع وإنما أيضاً في المجالات الاقتصادية والإستراتيجية والتجارية والصناعية والمالية ... إلخ.
فكبار المنظرين الإستراتيجيين ككلازفيتز عرفوا الإستراتيجية على أنها (فن استخدام المعارك كوسيلة للوصول إلى هدف الحرب) وعرفها ليدل هارت على أنها (فن توزيع واستخدام كل أنواع الوسائط والبدائل العسكرية للوصول إلى أهداف السياسة) بينما عرفها مولتكه على أنها (الإجراءات والتدابير العملية للوسائل الموضوع تحت إمرة القائد ليحقق الأهداف المطلوبة). والإستراتيجية من خلال هاته التعاريف توحي على أنها فن وعلم وهما عاملان لمعادلة توازنية واحدة جعلها تنمو وتتسع لتشمل المجالات السياسية الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية.
والإستراتيجية هي متعلقة ولصيقة بعدم اليقين والمستقبل؛ وإذا قلنا هنا إن الإستراتيجية لصيقة بالمستقبل، فلأنها تُعنى به، وتحاول تجنب المشكلات المستقبلية الممكنة أو ردعها أو حلها، وهذا هو عمل الإستراتيجي وشغله الشاغل، ونجد في تعاليم الشريعة الإسلامية مجالات ترشدنا إلى مفهوم الإستراتيجية، ونجد قواعد إلهية تحثنا على التنبؤ بالمستقبل المجهول وضرورة الإعداد له؛ فقد يقول قائل إن النظرة السلبية للمستقبل غير مرغوب فيها في الدين الإسلامي، إذ في مجال مكارم خلق الإنسان، فإن حسن الظن بالله وحسن الظن بعباد الله من أكبر الخصال الحميدة وسوء الظن بالله وسوء الظن بعباد الله من أسوأها وأمقتها ولكن في مجال الإستراتيجية الحربية والأمنية، وحتى الغذائية منها، يطلب منا القرآن الكريم أخذ الحذر والاستعداد لكل المخاطر المستقبلية الممكنة التي هي في علم الغيب، والتي بإمكانها أن تقع؛ فيقول الحق عزَّ وجلَّ:
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (سورة الأنفال: 60).
فأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأن يجعلوا الاستعداد للحرب التي علموا أن لا مندوحة عنها لدفع العدوان والشر، ولحفظ الأنفس ورعاية الحق والعدل والفضيلة، بأمرين:
أولهما، إعداد جميع أسباب القوة لها بقدر الاستطاعة؛ وثانيهما، مرابطة فرسانهم في ثغور بلادهم وحدودها، وهي مداخل الأعداء ومواضع مهاجمتهم للبلاد، والمراد أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها، إذا فاجأها العدو على حين غرة قاومه الفرسان، لسرعة حركتهم، وقدرتهم على الجمع بين القتال، وإيصال أخبار العدو من ثغور البلاد إلى عاصمتها وسائر أرجائها.
فالإستراتيجية إذن هي متعلقة ولصيقة بعدم اليقين والمستقبل؛ والإستراتيجي يكون له نسق فكري متقد وعلم ودراية كافية تجعله يستنبط أهم مقومات المرحلة اللا يقينية والمستقبل شبه المجهول ليصل إلى الأهداف المرجوة ويحقق الغايات المطلوبة؛ فالإستراتيجية تختلف عن تنفيذ برنامج أو ما هو محدد سلفاً.