د. شاهر النهاري
نشأتي المبكرة كانت في بلدة عمق جبلية محتارة بين أن تكون قرية، أو أن ترتدي جديد ملابسها، لتظهر مدينة، فكانت بحسنها وخجلها وبراءتها قريبة للقلوب تفتن كل من وقف على بابها، وكل من حلم بحزامها، ومداعبة منديلها الأصفر، ومن تتبع خطوات حنا قدميها، فوق شلالات سفوح جبال شم، وهي تتقي عين الشمس بطفشتها، وتنهر بهمها، السارح بثغائه بين عثرب الوديان وشوك الطلح ورغد الأعشاب الخضراء، في طريقه للغيل.
وبشغف التعلم كانت عقولنا الصغيرة تفرح بكل تحد، وكل مسابقة، عضلية كانت تستوجب القفز والتنطط، أو الجري، أو تسلق الجروف أو الأشجار، أو كانت أفكار تجعلنا نواسي ناعم الطين بكفوفنا وننقش فوقه الخطوط، ونرص الحجارة الصغيرة، أو العظام المنحوتة، أو عجم التمر، لنلهو بألعاب الذكاء، تتفتق معها أذهاننا باصطياد الحلول الذكية، التي تصعب على الكثير، ويتقنها من تعرضوا أكثر للمدنية، ودخلوا المدارس، وتمرسوا في نوعية الألعاب العقلية.
المقطار كان لعبتنا المفضلة، مجرد مربع تتقاطع زواياه في المنتصف، وأدواته ثلاث حصمات وثلاث تناقضها، ويلعب بنفس طريقة (اكس أو) المعروفة في الزمن الحالي، بتنافس من يجدون اللذة والتسلية، والتحديات، بمجرد وضع الثلاث حجار على استقامة واحدة، سواء على قطر أو جوانب الرسمة.
وكان المقطار الكبير والأعقد يلعب بتسع حجارة، تعرف في آفاق عربية أخرى بـ(أم تسع أو الطاحونة)، وفيها تسع حجارة للاعب الأول، وتسع عجمات للثاني، يحركانها تباعا فوق ثلاث مربعات متداخلة تتماهى في الزوايا، ويكون الفائز من يستطيع بالذهانة خداع الخصم، لجعل أي ثلاث قطع على خط مستقيم، قبل الآخر.
لعبة عقلية غير مكلفة، يمكن رسم ميدانها على أي أرض طينية بالأصبع، وأدواتها (عجم التمر، أو ثمار النبات، أو الحجار بلونين مختلفين) نحصل عليها من المتوفر على الأرض، وإن عزت القاعدة في داخل البيوت، فيمكن رسمها بقطعة فحم أو جص، والاستعاضة عن الحجارة بأي حبوب أو خرز، أو أوراق مضغوطة.
تلك إحدى الألعاب النجيبة، التي كانت شغفنا وشغلنا في فراغ أوقات يومنا وليلنا، وكنا نستصعب الحلول فيها، ونتدرب ونفاجئ الخصم، بالتقدم على خطواته بذكاء طفولي يتفتق، ويتحمس، ويهتف بالنصر.
الاحتيال قد يحدث، خصوصا إذا كانت الأعمار تتباين، وكم تحصل من مشادات وحمس، وتدخل من الكبار لإنقاذ المواقف.
العقول كانت حينها تتناسب مع ما كان مطروحا لنا من ألعاب، لم يكن الدماغ يستغني عن تحفيزها، فنكبر، ونعقل أكثر، ونتحكم بما نقول ونفعل، وبدقة واختيار، يثبت خطوات تقدمنا، عمن يظل بعيدا عن اللعب، وعن حماس المتعة، وتقمص العظمة، ولو بالفرجة.
ومن موقعي اليوم في مدينتي الجبارة الرياض، وبعد حوالي ستة عقود من الزمان، ما أزال أجد روح التحديات تسكنني، وغريزة اللعب تنبض داخلي، وبشكل يغافل مشاغل أوقاتي، ويبرز في وحدتي، لألعب، وأدرب الدماغ بما يتحقق لي من ألعاب، لم نعد نشقى لتحضر أمامنا، من خلال شاشة الهاتف، الذي أغرقنا ليس فقط في لعبة أو اثنتين، ولكنا نجد أعماق البحر المتلاطم الواسع من التطبيقات، نصطاد منها ما نشاء، نقليها في شاشاتنا، ونحاول تعلم طريقة لعبها، سواء كانت جديدة مبتكرة، أو قريبة من ألعاب صغرنا، من ملاحقة النقاط المتراصة في المقطار.
ورغم الشيب يظل لدينا فضول أكبر، فنبحث عن ألعاب ذكاء، وألعاب مغامرات وتحديات، وبما كان يحدث في الحقول القديمة، من مطاردات وحروب مصغرة، أصبحت بين أيدينا، مجرد شد عصبي، وألوانا تتصارع، ومحاولات تطول، تفشل كثير منها، وينجح بعضها، لنشعر بنفس شعور الانتصار الطفولي، الذي كنا ننفخ به صدورنا، وننظر شذرا لخصومنا، ونشعر بأن أدمغتنا، ما تزال طرية، عفية، تمتلك قدرة التحسين، التي يمتلكها الشباب، ممن يقضون أوقاتهم منكبين على الشاشات، يبحثون عن متعة وتفوق، وقتل للوقت.
هرمون الفرح والحماس والفخر ما زال يحركنا، وهو ذاته ما كان يفرز في أدمغتنا، ونحن عوال مبتهجين بالفوز في المقطار، أو الزقرة أو الوشايا، أو لعبة القب والدنينه، واليوم ها نحن نجد متعتها في وسط كفوفنا متقنة الألوان والأشكال، ونحن نعاندها، وقد نخجل مرات، لو نظر لنا أحد، ممن لا يحبذون تلك النوعية من التسلية، ويعدونها هدرا، أو يحصرونها في عمر الطفولة، وخصوصا لو كان أحد أبنائنا، أو أحفادنا هو المُنتقِد، وممن يعتقدون أن أدمغتنا قد تكربنت، وملت اللعب، بعد هذه العقود الطويلة من الحث.
هل دماغ الشخص القديم، من زمن الطيبين ما زال يستسيغ ويفهم معظم الألعاب الحالية، أم أن مجرد زمن معيشة طفل هذا الزمان، ونشأته بين الألعاب تجعل دماغه أكبر، وأكثر تفتحا وتقبلا للحبكات الخوارزمية، والتحديات الحسابية، التي تستفزنا في ألعاب اليوم؟
هذا سؤال لا بد من إثبات نتائجه بواسطة استبيانات وبحوث علمية طبية، تحسب حجم الدماغ قبل عقود من الزمان، وهل تضخمت تلافيفها وتفتقت أحجامها ومهامها عند الجيل الجديد، لتصبح محسنة تتضخم البديهة فيها، ومدعمة بالحذر والقدرة والتمكن أكثر من جيلنا؟