د. محمد عبدالله الخازم
تصدر مسلسل «خيوط المعازيب» المشهد الدرامي كأحد أفضل المسلسلات السعودية خلال ثلاثة عقود من الزمن. بعيداً عن البعد العاطفي، في كون المسلسل يعنى ويحكيه أبناء منطقة الأحساء التي نحبها، أبث أسئلة حوله تعنى بالتحولات الفكرية. مع تأجيل النقد الفني ريثما ينتهي المسلسل.
ضمن فترة انغلاق سادت خلال العقود الماضية، كانت الدراما السعودية مخنوقة أو لم تتجاوز مهدها أو تم إخفاؤها عن التطور والبروز، سوى من بعض محاولات أو اجتهادات كثير منها يمكن تصنيفه تحت مسمى (اسكتشات) أو محاولات بسيطة، اعتمد نجاحها في كونها وسيلة نقد للخدمات الحكومية وبعض الظواهر الاجتماعية، عبر حكايات متواضعة في بنائها الدرامي. طبعاً، كامل التقدير لتلك المحاولات والقائمين عليها؛ كانوا في وجه المدفع، يحاربهم الرقيب بكافة أشكاله الاجتماعي والديني والإداري، كل وفق حساسيته التي ينطلق منها..
ربما، وهذا استنتاج يحتاج إلى بحث أعمق، أن التنافس الثقافي المحلي، لم يسمح ببروز الثقافات الطرفية بشكل واضح. هذا أمر طبيعي يحدث في مجتمع متعدد متنوع، حيث طبيعة العمل الثقافي بما فيه الفنون الانحياز والميل وربما الإقصاء، سواء كان ذلك بقصد أم غير قصد. المثقف أو صانع المشهد الثقافي مثل غيره من البشر لا يعيش طوبائية مثالية دائمة، وإنما ينحاز لمصالحه ويستسلم لمخاوفه. دون أن ننسى محدودية خيارات القنوات والمؤسسات ذات العلاقة بتوصيل العمل الدرامي والثقافي المحلي؛ كانت قنوات إعلامية محدودة تتمركز في المدن الرئيسة ومؤسسات إنتاجية محدودة وبرامج تعليمية وتدريبية غائبة في مجال الفنون.
كانت مرحلة ساد فيها الانغلاق الفكري أو ما عُرف بالصحوة التي حاربت الفنون بما فيها الدراما وحاولت فرض نماذجها المصطنعة. كان طبيعي انزواء الثقافات التي تمثِّل المجتمعات المحلية الأضعف تنموياً والأكثر حساسية للتغيّرات الثقافية. على أننا نحاول استبعاد نظرية التهميش والإقصاء التي تستورد من مجتمعات تتكون من مستعمر وآخر أصلي مهمش. بلادنا لم تستعمر ومناطقنا بدأت تنمو معاً كمجتمعات تنتقل من المحلية والقبلية والريفية إلى المدن أو المدنية، والتفاوت الحاصل يؤكد تنوعنا وتحكمه الطبيعة التنموية والحساسية المجتمعية التي تختلف بين مجتمع وآخر.
للأسف لا يوجد لدينا دراسات تعنى بموضوع المثاقفة أو تنوع وتنازع الثقافات المحلية، لكن دعوني أعود لموضوع مسلسل «خيوط المعازيب» فأطرح تساؤلاً إن كان توقيته وبروزه في هذا التوقيت يحمل مؤشراً فكرياً أو ثقافياً؟ هل هو مفاجأة وجود قدرات درامية مميزة تظهر لنا أعمالاً محلية خارج المركز الرئيس أو المدن الرئيسة، لها طبيعتها وثقافتها ولهجتها المختلفة أو التي تميزها عن ما كان سائداً في قنواتنا الإعلامية؟
كتبت حكاية المعازيب قبل 24 عاماً، فلم تكن الظروف مهيأة لظهورها، حتى أتت رؤية 2030 التي شعر معها المبدع والمبدعة بقدرتها على تقديم هذا العمل الدرامي كما يريداه، دون التعرض إلى إقصاء أو محاربة اجتماعية أو إدارية. هل يمكن اعتبار ذلك من جماليات أو مخرجات الرؤية التي تسير بنا نحو فكرة قبول الآخر واحترام الاختلاف وتنوع قنوات الثقافة وكبح جماح الفئة الواحدة التي تحاول السيطرة على كامل الخطاب المحلي؟ هل هو نتاج التوجه إلى الاحتفاء بثقافاتنا وفنوننا من مبدأ تنوعها وثرائها المستمد من محليتها؟
وكما نشاهد «سكة المعازيب» تمثِّل أحساءنا الجميل و«سكة سفر» تمثِّل جنوبنا الرائع تُضاف إلى بقية التجارب الوطنية، هل نتوقع دراما قادمة من بيئات محلية أخرى؟ هل وصلنا إلى قناعات بأن تعزيز المحلية ثراء وطني ننطلق منه إلى الإقليمية والعالمية في التعريف بأنفسنا، كوطن متنوّع الثقافات والبيئات واللهجات والصناعات والرقصات وغيرها؟