أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
البيئة كمفهوم علمي في أبسط صوره تعني اصطلاحاً كل ما يحيط بالإنسان أحيائياً كالنباتات، والحيوانات، والميكروبات والإنسان نفسه وغير أحيائي كالماء، والهواء، والصخور والتربة والمساكن والطرق وغيرها. ويتألف هذا المحيط من عدة أنظمة بيئية جوية، وجيولوجية، وبيدو -جيومورفولوجية، وهيدرولوجية، وحيوية. ويعد كل نظام من هذه الأنظمة المذكورة آنفاً كياناً بيئياً فرعياً ديناميكياً قابلاً للتفاعل الذاتي المتبادل مع الوحدات المكونة لكل نظام منه من ناحية والوحدات المكونة لغيره من النظم من ناحية أخرى وذلك عبر شبكة منظومية معقدة ذات خطوط تلاقح موزونة راجعة التغذية مقدرة كمّاً ونوعاً في أمثل صور التقدير وأحواله غير القابلة للتبديل والتحويل الذاتي طبعياً. فقال تعالى في هذا الصدد في الآية التاسعة عشرة من سورة الحجر «والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون»، وقال تعالى في الآية الثامنة من سورة الرعد وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ، كما قال عز وجل في الآية الثانية من سورة الفرقان {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}. أما في سياق نفي التبديل والتحويل الذاتي طبعياً فقال تعالى في الآية الثانية والستين من سورة الأحزاب سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ، وقال تعالى في الآية الثالثة والأربعين من سورة فاطر التي جمع فيها الله معاً بين نفي التبديل والتحويل في سياق واحد اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا .
يمتاز الإطار المرجعي الإسلامي المتمثل في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، وما أنتجته عقول أهل الإسلام وأفهامهم من الفقه والإرث الشرعي والفكري والعلمي، بالسرد المتعمق الدقيق للمحددات المفاهيمية التي وظفها المسلمون عبر تاريخ حضارتهم في فهم البيئة والمحافظة على الأنظمة البيئية الطبيعية لكوكب الأرض وحمايتها، واستدامتها، وتعزيز العلاقة بينها وبين الإنسان والكائنات الحية الأخرى. وعلى الرغم من أن مصطلح «البيئة» تحديداً لم يذكر في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، إلا أنه تم التعبير في الكتاب والسنة عن ذلك المصطلح بألفاظ بديلة تقوم مقامه مثل «السماء والأرض» وما تشتمل عليه السماء من النجوم والكواكب والشهب والنيازك والسحب والأمطار، وما تحويه الأرض من البراري والبحار والأنهار والجبال والوهاد والسهول والسهوب وما عليها من أزواج من نباتات شتى وحيوانات وما فيها من الطير في جو السماء وغيرها من المخلوقات التي سخرها الله متاعاً للبشر وأنعامهم. ولم يترتب في حقيقة الأمر على عدم ورود مصطلح «البيئة» في القرآن والسنة استشكالات معرفية أو منهجية تُخل بمضامين الإطار المعرفي والمرجعي للأنظمة البيئية البتة أو تعيق من مدى الفهم المنشود لهذه الأنظمة. كما لم يُعق هذا الأمر علماء المسلمين من الاستقراء السليم للأنظمة البيئية المقيسة، أو يقلل من مصداقية استنباطاتهم للتعميمات الاستدلالية التامة الجامعة الشاملة اللازمة لبناء نظرية معرفية منطقية صادقة لتلك الأنظمة.
بادئي ذي بدء حُظيت الأرض في سورة فصلت بعرض منظومي بديع لنشأتها بيئياً وللمدد الزمنية التي استغرقتها تلك النشأة وتقدير أقواتها إذ قال عز وجل في هذا الصدد: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ (10) .
كما يحظى الجانب الموضوعي لنشأة الأنظمة البيئية الآنفة الذكر أيضاً بتفصيل منهجي منظومي مرحلي دقيق يتجلى بعدد من الآيات من سورة النازعات في قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33 .
وبناءً على ما تقدم أعلاه يمكن القول إن هذه الآيات وما يماثلها في القرآن قد حددت بشكل جامع شامل المحاور المعرفية الرئيسة لنشأة الأنظمة البيئية الطبيعية، وأجملت وفق منهجية دقيقة مراحل تلك النشأة التي تتسق معها المنجزات العلمية والمعارف الكونية المعاصرة. وتتوالى الآيات في غير موضع من القرآن مفصلة بشكلٍ دقيقٍ طبيعة النظام البيئي لكوكب الأرض، دون ما سواه من الأجرام الكونية المنظورة حتى الآن، مفصلة له كمستقر تتحقق فيه شروط الحياة للبشرية وتنتفي فيه موانعها إلى حين مصداقاً لقوله تعالى في سورة الأعراف: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(24) . إضافة الى ذلك، تتضمن السياقات القرآنية معلومات وفيرة عن ماهية هذا المستقر الكوني، وطبيعة عملياته البيئية المتنوعة، والتغيرات التي تطرأ عليه عبر الزمن، وأمد البقاء فيه إلى الحين الذي تطوى فيه السماوات والأرض كطي السجل للكتب وتُبدل الأرض غير الأرض والسموات. إضافة إلى ذلك، تتضمن السياقات القرآنية المتعلقة بهذا النظام الكيفيات التي تتحقق بوساطتها للبشرية بيئة مستدامة آمنة مهدية خاليةً من الخوف والحزن في الدنيا والآخرة حيث قال الله عز وجل في سورة البقرة: قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) . وتعزيزاً لهذه المفاهيم البيئية الحياتية المستدامة، عرضت السياقات القرآنية جانبا ًمهماً من الاشتراطات البيئية الأساسية التي يتطلبها العيش في نظام بيئي آمن فقد قال تعالى في سورة الأنعام: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ(82 . ولا شك أن انعدام الخوف والحزن، وتحقيق الطمأنينة، وتوفر الأمن والأمان وانتفاء موانعهما، واتباع الهدى، وتجنب الظلم يُعدُّ من أسمى الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها صناع القرار في الأرض وكذلك يفعلون.
وينفرد القرآن الكريم بذكر هذه النظم، وفقاً لمنهجية دقيقة صارمة، فرادى تارةً، ومجتمعة في سياق قرآني واحد تارةً أخرى.
ومن أمثلة الآيات اللاتي تُذكر فيها الوحدات البيئية منفردةً قوله تعالى في سورة القارعة: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ، وقوله عز وجل في الزلزلة إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2) . أما الآيات اللاتي يرد فيها ذكر الوحدات البيئية مجتمعة في سياق قرآني واحد فيمثلها قوله تعالى في سورة البقرة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) .
ويتكرر أيضاً هذا النسق من الجمع بين وحدات النظام البيئي الطبيعي لكوكب الأرض في عدد من سور القرآن الأخرى ومنها مثلاً سورة لقمان التي جمعت الآية العاشرة منها السموات برواسي الأرض، ودوابها، والأمطار، والنباتات حيث قال تعالى في هذا الصدد: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (10). ومن المهم لفت النظر هنا إلى أن الجمع بين النظامين البيئيين الهيدرولوجي والأحيائي تحديداً يُعدُّ الأغلب حدوثاً في القرآن خاصةً عندما يكون هدف السياقات القرآنية توضيح التأثير الهيدرولوجي الفاعل للماء على استنبات مختلف أنواع المزروعات والأغطية النباتية المتنوعة، وإبراز طبيعة ذلك الاستنبات، وأنواعه، ومراحله. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (99). وينسحب ما ذكر آنفاً أيضاً على قوله تعالى في سورة النحل: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (11) .