د. محمد عبدالله الخازم
يأتي العيد، غداً أو بعد غد، ولست أدري كيف يكون عيدي بدون والدي الغالي -رحمه الله وغفر له- وهو من كان يرسم لي طريق البهجة وينير مسارب الفرح في قريتنا الوادعة؟ لمساته، توجيهاته، ولطفه، رحمه الله، ذكريات طفولة لا تبرح الذاكرة مهما كبرنا..
إضافة إلى التحضيرات التقليدية لموسم العيد، من ملابس وحلويات وغيرها، توزيع الزكاة في القرية له طقوسه، لسنا مثل المدينة نأخذها من البائع ونسلمها للمحتاج في آخر ذات الرصيف. يبدأ الأمر بمشاورات العائلة، حول مستحقي الزكاة في القرية، ثم فرزها، حسب المتوفر منها وحجم الأسر المستحقة لها. يوجهنا الوالد -رحمه الله- إلى إيصالها، وهي جيدة عطفاً على حجم عائلتنا، للأسر المحددة. أن تحمل الزكاة على كتفك بعد غروب شمس آخر ليالي رمضان وتوصلها للأسر المحددة، يعني ثقة الوالد فيك بأنك لم تعد صغيراً.
ليلة العيد يدور الحديث حول العيديات التي سيوزعها الوالد باسمه وأبنائه للقريبات؛ الوالدة، أخواتي، عماتي، خالاتي، بناتهن وغيرهن من قريبات العائلة. العيدية، يحرص عليها الوالد ويسلمها بنفسه، حتى ولو استوجب الأمر الذهاب إلى أطراف المنطقة في طرق جبلية تبعد 30 و40 كم، لأجل الوفاء بواجب المعايدة. وصاياه المتكررة نبراس لنا؛ مسؤوليتكم عظيمة تجاه أخواتكم، العيدية والهدية مهمة ويشرح معانيها العظيمة. الأمر لا يتعلق بالحاجة فذلك أمر أوجب بالدعم، بقدر ما هو تقدير ومشاركة واعتزاز بالأخوة...
يوم العيد نبدأه بقبلة على رأسي الوالدين، وسماع تعليقاتهما وثنائهما على هندام العيد والتعطر من (عودة) الوالد قبل الانطلاق إلى صلاة العيد مع جماعة القرية. قريتنا تنقسم إلى ثلاث قرى ومقر الصلاة في أوسطها. بعد صلاة العيد، نتجه برفقة الوالد لزيارة ومعايدة الأخوال في القرية الوسطى والأقرباء في القرية الأخرى، ندور على بيوتاتهم نتذوَّق من تمرهم وحلاوتهم. كانت تلك العادة بقيادة الوالد -رحمه الله - نزورهم صباح العيد ويزورونا بعد العصر أو في اليوم التالي.
بعد صلاة الظهر تبدأ دورة الغداء في قريتنا الصغيرة (12-15 أسرة) وكما هو معتاد يبدأ التجمع في بيت الوالد، ثم نزور كل بيت في القرية نتذوق من غدائهم في جولة تمتد حتى قرابة صلاة العصر. كل يقدم غداءه ويتم أكل بعض لقيمات منه، رزاً أو عيشاً أو عصيداً (أكلات المنطقة). والسيدات يفعلن مثل ذلك لاحقاً. كان والدي (المايسترو) الذي يقدره ويحترمه أهل القرية يقودنا في الصباح في جولة المعايدة ويجتمع أهل القرية في بيته لبدأ دورة الغداء. العيد يستوجب تجاوز الخلافات؛ كان والدي يتسامى فوق الخلافات ويرفض غيبة الآخرين (تلك عادته في العيد وغيره)، حتى إنه يزور أشخاصاً وصل الخلاف بينهم للمحاكم. يشرح لنا فلسفته؛ تلك خلافات لها بابها، أجبرنا عليها وكل سيأخذ حقه، لكننا نبقى جيراناً وأقارب سنعود لبعض اليوم أو غداً.
في المساء تكون اجتماعات العوائل، فيجتمع على شرف الوالد أبناؤه وبناته وأحفاده، ومثل ذلك تفعل أغلب العوائل. ثاني وثالث أيام العيد، يكون لزيارة الأقارب في القرى الأخرى واستقبال المعيدين من بعيد، نتوزع الأدوار؛ فهناك من يستقبل ضيوف المعايدة وهناك من يرافق الوالد أو ينوب عنه في معايداته ... إلخ.
هذا العام أعود لعيد القرية مفتقداً تاج رأسي، والدي -رحمه الله- الذي تسكن روحه، بسمته، حكمته، في كل تفاصيل العيد. بوجوده -رحمه الله - كان عيدنا مختلفاً بالذات قبل أزمة (كورونا) التي أخلت بنظام الكون وليس عيدنا فقط، وتدهور صحته في السنوات السابقة لوفاته.
رحمه الله وغفر له وأسكنه جنات النعيم. اللَّهم آمين.