د. تنيضب الفايدي
بيشة من المناطق الغالية والتاريخية حيث ورد ذكرها في المراجع التاريخية وكُتب المعاجم والسير، كما ورد ذكرها في الأدب العربي، تقع بيشة في الجزء الجنوبي من الوطن الغالي، وإدارياً تتبع منطقة عسير، وتعدّ واحدة من أبرز الواحات في المنطقة، وقد اشتهرت بخصوبة أراضيها ووفرة مياهها وكثرة إنتاجها الزراعي، سميت على اسم واديها الكبير الذي ينحدر شمالاً من سلسلة جبال السروات في المنطقة الجنوبية.
وتاريخياً ورد اسم بيشة في السيرة النبوية عند ذكر الوفود، حيث جاء وفد خثعم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما هَدَم جرير بن عبد الله صنم ذا الخلصة، فقالوا آمنا بالله ورسوله وما جاء من عند الله فاكتب لنا كتاباً نتبع ما فيه، فكتب لهم كتاباً هذا نصه: «هذا كتاب من محمد رسول الله لخثعم من حاضر بيشة وباديتها أنّ كلّ دم أصبتموه في الجاهلية فهو عنكم موضوع، ومن أسلم منكم طوعاً أو كرهاً في يده حرث من خبار أو عزاز تسقيه السماء أو يرويه اللثي فزكا عمارة في غير أزمة ولا حطمة فله نشره وأكله، وعليهم في كلّ سيح العشر، وفي كلّ غرب نصف العشر شهد جرير بن عبد الله ومن حضر». سبل الهدى والرشاد للصالحي (6/ 331)، كما أورد ابن عبد ربه في كتابه العقد الفريد (1/ 256) أن جرير بن عبد الله البجلي عندما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن منزله ببيشة فقال جرير: سهل ودكداك، وسلم وأراك، وحمض وعلاك، ونخلة ونخلة، ماؤها ينبوع، وجنابها مريع، وشتاؤها ربيع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن خير الماء الشب، وخير المال الغنم، وخير المرعى الأراك والسلم إذا أخلف كان لجينا، وإذا أسقط كان ردينا، وإذا أكل كان لبينا.
ونظراً لشهرة بيشة وأهميتها التاريخية فقد تردد اسمها كثيراً في النصوص الأدبية العربية، حيث قالت الخنساء رضي الله عنها:
وكان إذا ما أورد الخيلَ بيشةً
إلى هضب أشراك أقام فألجما
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
كأنهم في الوغى والموت مكتنع
أسدٌ ببيشة في أرساغها فدع
وقال الشاعر:
وجاءت من أباطحها قريش
كسيل أتى بيشة حين سالا
ورغم بُعد بيشة عن ديار الشاعر المحبّ كثيّر عزّه إلا أنه خلّد بيشة في شعره حيث قال:
إلى أُرُكٍ بِالجِزْعِ من بطن بيشة
عليهن صيفن الحمام النوائح
كأن القماريّ الهواتف بالضحى
إذا ظهرت، قينات شربٍ صوادح
وكم ذكرت بيشة حباً، حيث قال حميد بن ثور شعراً خالداً يصف الحبّ الحقيقي بقوة الكلمة مع عذوبتها:
وَمَا هَاجَ هَذَا الشَّوْقَ إلاَّ حَمَامَةٌ
دَعَتْ سَاقَ حُرٍّ تَرْحَةً وَتَرَنُّمَا
إذَا شِئْتُ غَنَّتْنِي بِأَجْزَاعِ بِيشَةٍ
أَوِ النَّخْلِ مِنْ تَثْلِيثَ أَوْ بِيَلَمْلَمَا
مُطَوَّقَةٌ خَطْبَاءُ تَسْجَعُ كُلَّمَا
دَنَا الصَّيْفُ وَانْجَالَ الرَّبِيعُ فَأَنْجَمَا
مُحَلاَّةُ طَوْقٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ تَمِيمَةٍ
وَلا ضَرْبِ صَوَّاغٍ بِكَفَّيْهِ دِرْهَمَا
تَغَنَّتْ عَلَى غُصْنٍ عِشَاءً فَلَمْ تَدَعْ
لِنَائِحَةٍ فِي شَجْوِهَا مُتَلَوَّمَا
إذَا حَرَّكَتْهُ الرِّيْحُ أَوْ مَالَ مَيْلَةً
تَغَنَّتْ عَلَيْهِ مَائِلاً وَمُقَوَّمَا
عَجِبْتُ لَهَا أَنَّى يَكُونُ غِنَاؤُهَا
فَصِيحاً وَلَمْ تَفْغَرْ بِمَنْطِقِهَا فَمَا!
فَلَمْ أَرَ مِثْلِي شَاقَهُ صَوْتُ مِثْلِهَا
وَلاَ عَرَبِيّاً شَاقَهُ صَوْتُ أَعْجَمَا
ونظراً لموقع بيشة المتميز في نقطة الوسط بين نجد والحجاز وعسير،فقد كانت ذات أهمية تجارية حيث تعتبر بيشة إحدى محطات الطريق التجاري المعروف بدرب البخور الذي كان يربط بين جنوب الجزيرة وشمالها، ويمر بها درب الفيل الشهير، وقديماً كانت تقام فيها عدة أسواق كانت لها حركة ونشاط تجاري، ومن تلك الأسواق: سوق الربوع، سوق نمران ويسمى سوق الخميس، وبعد ظهور الإسلام أصبحت بيشة من أهم محطات طريق الحج القادم من اليمن حيث يلتقي فيها حجاج حضر موت وصنعاء والسراة. المسالك والممالك لابن خرداذبة، (ص133)، المناسك للحربي (ص644). أما الآن فقد عثر في جبال بيشة مخزون كبير من الذهب والفضة والنحاس والفلورايت والجرانيت وغيرها، كما تشتهر بيشة بسد الملك فهد الذي يعدّ من أكبر السدود في وطننا الغالي، حيث يبلغ ارتفاعه 103 مترًا وبطول 507 مترًا.
وقد سعد الكاتب بالإقامة بمدينة بيشة عدة أيام في بداية عام (1408هـ) واطلع على بعض معالمها وقد حمل معه أجمل الذكريات عن تلك المدينة الوادعة والواعدة، ومن تلك الذكريات: كرم أهلها الملفت للنظر وسمو أخلاقهم، وحسن تعاملهم، واعتزازهم بمدينتهم، كما وقف على وادي بيشة الذي تنحدر منه أودية عسير وشهران وقحطان، وأخبره بعض الأهالي أن وادي بيشة إذا سال يحجز من أراد الوصول إلى أهله عدة أيام وقد تصل إلى أسابيع، وكان وادي بيشة أثناء زيارة الكاتب له يمثل غابة متكاملة من الأشجار الملتفة على بعضها ولاسيما شجر السلم والسدر وتذكّر أن أحد الشعراء أرسل سلامه إلى حبيبته في بيشة:
فإن التي أهدت على نأى دارها
سلاماً لمردودٌ عليها سلامُها
عديد الحصى والأثل من بطن بيشة
وطرفائها ما دام فيها حمامُها
وهناك أودية أخرى شهيرة مثل وادي ترج ووادي تبالة ووادي هرجات، وعندما قدم الكاتب إلى بيشة ( بداية عام 1408هـ) من المدينة المنورة كان يعتقد أن النخيل تتميز به بعض المناطق مثل خيبر والأحساء، ولكن فوجيء بأن بيشة مركز هام للتمور حيث أنها تتميز بالنخيل تضاهي المدينة المنورة وخيبر والأحساء والقصيم، نضّر الله تلك الأيام التي قضاها الكاتب في بيشة مع أهلها.