د.عبدالله بن موسى الطاير
عندما تدخَّل سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في أحد المؤتمرات بالقول إن الشرق الأوسط سيكون أوروبا الجديدة، توقّع البعض أنها مجرد عبارة لاستنهاض الهمم يلتقطها من شاء من أبناء المنطقة ويعمل عليها من يعمل ويضعها من يشاء رؤية يضع خططاً لتحقيقها ويتوقف الأمر عند هذا الحد. الواقع أنها لم تنطلق من حالة عابرة، وإنما نتيجة استقراء لمسيرة البشرية وتداول الأيام بين الأمم؛ وأبعد ما تكون عن اللحظة الانفعالية.
من يومين عبرت وابنتي دولتين عظميين، بريطانيا وأمريكا، وفي كل واحدة منهما كنا بدون قصد نقارن بين مطارات المملكة وبعض دول الخليج وخطوطها الجوية، وكل من مطاري لندن هيثروا، وبالتيمور في ضواحي واشنطن، والخطوط البريطانية؛ البنى التحتية، النظافة، الخدمات، وجودتها، الترحاب، التعامل، وفي كل مرة نتوصل لنتيجة واحدة: نحن الأفضل.
لا ريب أن أمريكا وبريطانيا تواجهان تحديات كبيرة في مجال البنى التحتية بسبب شيخوختها من جانب، وقلة الاستثمار فيها من جانب آخر، ومن أجل تحديثها تحتاج إلى مليارات الدولارات تنفقها الحكومات في ظل عزوف القطاع الخاص الذي يجد فرصاً أفضل في الاقتصادات الواعدة. حتى البنى التحتية التقنية التي اخترعها الغرب شاخت أيضاً وتقادمت، حيث تتدهور المكونات المادية من كابلات وأبراج ومراكز بيانات بمرور الوقت، وتنخفض قدرتها وموثوقيتها، وقد لا تتمكن من مواكبة التطور السريع في هذا المجال، على عكس المملكة ودول الخليج التي تلقفت التقنية من آخر تحديثاتها، وهيأت لها البنى التحتية المناسبة، وجعلت أنظمة التقنية متوافقة مع البرمجيات الأحدث بما في ذلك معايير الأمان.
الأمريكيون لا يخفون الوضع المزري الذي وصلت إليه البنى التحتية في بلادهم، فقد شخص البيت الأبيض الحال بدقة مشيراً إلى انخفاض الاستثمار العام في البنية التحتية الأمريكية كحصة من الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 40 % منذ الستينيات. ويصنف المنتدى الاقتصادي العالمي الآن الولايات المتحدة في المرتبة 13 عندما يتعلق الأمر بالجودة الشاملة للبنية التحتية. اعترافاً بالمشكلة يضرب المسؤولون الأمريكيون أمثلة كثيرة على البنية التحتية الهشة والمتهالكة، حيث إن 45000 جسر، وميل من كل خمسة أميال من الطرق في حالة سيئة، ولا يزال الملايين يحصلون على المياه من أنابيب الرصاص، على الرغم من أن التعرض للرصاص له آثار صحية لا رجعة فيها؛ وفي عام 2015، أُعلنت حالة الطوارئ في فلينت بولاية ميشيغان عندما علم المواطنون أن إمدادات المياه الخاصة بهم تحتوي على مستويات سامة من الرصاص. الحافلات الأمريكية - ثلاثة أرباعها حافلات مدرسية - تعمل في الغالب بوقود الديزل، الذي يسبب مشاكل صحية مثل الربو؛ ولم تقترب مبيعات السيارات الكهربائية من استبدال السيارات التي تعمل بالغاز، ويرجع ذلك جزئيًا إلى نقص محطات الشحن. ويشير المسؤولون الأمريكيون أيضاً إلى أن الحافز للسفر بوسائل النقل العام أو السكك الحديدية منخفض بسبب رداءة جودة العديد من هذه الأنظمة. ويستذكر البيت الأبيض أنه في عام 2020، كشفت جائحة كوفيد-19 عن الأضرار التي لحقت بالملايين الذين لا يستطيعون الوصول إلى الإنترنت عريض النطاق، بسبب ارتفاع تكاليفه أو محدودية توفره في المكان الذي يعيشون فيه، بينما نستطيع الإشارة إلى منجزات حققتها المملكة في المجال التقني أثناء أزمة كورونا.
تبلغ التكلفة الإجمالية لازدحام الركاب في أمريكا ما يقرب من 160 مليار دولار، علاوة على ذلك، فإن الطرق غير الآمنة تخلف عواقب قاتلة، إذ يموت أكثر من 30 ألف شخص في حوادث مرورية على الطرق في الولايات المتحدة كل عام، وتُعَد حوادث السيارات السبب الرئيسي للوفاة بين الأطفال.
في الوقت الذي تشيخ فيه البنى التحتية وهي المحرك الأساس للاقتصاد، تزدهر مشاريع البنى التحتية في المملكة ودول الخليج، وترسي ممارسات جديدة تمهد لمستقبل يفوق نظيره الأمريكية والأوروبي. دول الخليج وفي مقدمتها المملكة تخطو للمستقبل بسرعة وجودة وكفاءة وترحاب، بينما تجتر أمريكا وأوروبا الماضي وتتوكأ على حاضر في الصيت دون الغنى، وتستمد قوتها من سمعة تتآكل يوماً بعد الآخر.
لم أجد ورفيقتي في السفر غرباً ما يبهرنا، وقد كانت أمريكا وبريطانيا باهرتين إلى عشر سنوات خلت، بينما هما اليوم في مقارنة غير متكافئة في مجال البنى التحتية والخدمات وجوتها وكفاءتها مع المملكة. إن تحول الشرق الأوسط إلى أوروبا جديدة لم يعد حلماً مستحيلاً، مع يقيني أن العمل على تحقيق ذلك يواجه صعوبات بعضها مصطنع لمصادرة الطموحات والعمل الجاد، بالاضطرابات وعدم الاستقرار في الجوار الخليجي.