أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
وتضيف بعض الآيات التي تجمع بين النظامين الهيدرولوجي والأحيائي من سورة الزمر، معلومات زائدة على ما ورد في الآيات السابقة تتعلَّق تحديداً بالتحولات التي تطرأ على هذين النظامين البيئيين عبر الزمن، حيث قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (21)}. ويتم الجمع أحياناً بين النظامين الهيدرولوجي والأحيائي أو غيرهما من النظم في القرآن وفقاً لمنهجية تختلف عن منهجية الجمع السابق شرحها آنفاً، حيث يُجمع في هذه الحالة بين مختلف وحدات النظام البيئي الطبيعي لكوكب الأرض والأنظمة الكونية السماوية وفقاً لأنموذج معلوماتيٍ سببيٍ ارتداديٍ طبقيٍ منظوميٍ مغلق الدائرة يبدأ منحناه البياني بالصعود من نقطة أرضية صفرية الارتفاع إلى مناسيب سماوية متفاوتة في علِوها ثم الهبوط من تلك المناسيب سريعاً إلى النقطة الصفرية نفسها مرة أخرى. ومن أمثلة هذا النمط السببي من الجمع في القرآن، قول الله تعالى في سورة النبأ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)}، وكذلك قوله تعالى في سورة الغاشية: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)}.
بعد هذا التفصيل الآنف الذكر للمفاهيم المنهجية للبنيوية التركيبية للأنظمة البيئية قرآنياً والتغذية الراجعة لعملياتهم الديناميكية، لا بد من التركيز على بعض السياقات القرآنية التي تتعلق بمختلف السمات التكوينية للنظم البيئية الجوية، والجيولوجية، والبيدو-جيومورفولوجية، والهيدرولوجية، والأحيائية وذلك على النحو التالي:
أ- السمات التكوينية للنظم البيئية الجوية:
يزخر القرآن الكريم بعدد وفير من الآيات المتعلقة بالسمات البيئية الجوية المبسوطة في مواضع كثيرة منه كقوله تعالى مثلاً في سورة الأنعام: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (125)}. ولا شك أن هذه آيةٌ إعجازيةٌ كريمةٌ مناط الأمر فيها تشبيه حال صدور أهل الضلال بحال صدور من يصعَّد إلى السماء عبر طبقات الغلاف الجوي المحيط بكوكب الأرض من حيث الضيق، والتضاؤل الملحوظ في التنفس نتيجة لانخفاض الضغط الجوي الحاد مع الارتفاع في تلك الطبقات.
وفي المقابل، تركز بعض الآيات القرآنية بشكل دقيق غير مسبوق على وحدات عديدة أخرى من النظام البيئي الجوي كالرياح مثلاً، والسحب ونزول الأمطار نزولاً يختلف باختلاف نوع تلك السحب، وطبيعة الرياح التي تشكلها من حيث السرعة والشدة.
فتصف السياقات القرآنية مختلف أنواع السحب كالكسف «الطباق» والركام وصفاً قرآنياً منهجياً رصيناً، ومع كل وصف للسحب تُبرزُ السياقات القرآنية الاختلاف في طبيعة بنيتها، والديناميكيات الريحية المسببة لها، ومسارات تغذيتها الراجعة، والوظائف التي تؤديها. ففي سورة الروم، يصف الله تعالى سحب الكسف الطبقية بقوله عزَّ وجلَّ: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)}. وكما وصف الله عزَّ وجلَّ مراحل تكوين السحب الطبقية، وصف أيضاً مراحل تكوين السحب الركامية في القرآن وصفاً منهجياً رصدياً دقيقاً غير مسبوق تتسق معه نتائج الأرصاد والدراسات البيئية المناخية المعاصرة حيث قال تعالى في سورة النور: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ(43)}. بالإضافة إلى كل ذلك، تُبرزُ الآيات القرآنية في سياقٍ بلاغيٍ بديعٍ دور الرياح في نشأة السحب بمختلف أنواعها بما في ذلك السحب الطبقية والركامية، فيقول الله عزَّ وجلَّ في سورة الأعراف: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)}. ولا تخل والسياقات القرآنية أيضاً من إشارات علمية إعجازية دقيقة غير مسبوقة تبرز بشكل رصين دور الرياح لواقح للسحب، حيث يقول الله تعالى في هذا الصدد في سورة الحجر: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)}. ولم تغفل الآيات القرآنية الإشارة إلى دور الجبال في تشكيل السحب حيث قال تعالى عزَّ وجلَّ في سورة المرسلات: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتًا (27}.
ب- السمات التكوينية للنظم البيئية الجيولوجية:
تحظى السمات الجيولوجية، بنصيبٍ كبيرٍ من الآيات في عدة مواضعٍ من القرآن، فعلى سبيل المثال لا الحصر يؤكد الله في عدد من تلك الآيات أهمية الجبال ودورها في تثبيت الأرض كي لا تميد بمن عليها من الكائنات الحيَّة والجمادات، وكي تكون أيضاً فجاجاً وسبلاً يُهتدى بها، حيث قال عزَّ وجلَّ في هذا الصدد من سورة الأنبياء: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)}، وقال تعالى في سورة النحل في السياق نفسه: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)}، حيث استبدلت لفظة {فِجَاجًا} في الآية الواردة في سورة الأنبياء المذكورة آنفاً بلفظة {أَنْهَارًا} في الآية السابقة الذكر الواردة في سورة النحل لتشمل السياقات القرآنية نتيجة لذلك كافة أنواع السبل البرية والمائية التي من الممكن أن يسلكها قاطنو الأرض. ولم تكتف السياقات القرآنية بذكر الوظائف البيئية للجبال فحسب كما مرَّ بنا سابقاً، بل تعدتها إلى ذكر أنواع الجبال، وتباين ألوانها نتيجة لتباين المعادن التي تتكون صخور تلك الجبال منها، حيث قال تعالى في سورة فاطر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)}.كما امتن الله على عباده بنعم المعادن التي تتكون منها صخور الجبال، أو تشملها بواطن الأرض ورواسبها السطحية القارية والبحرية ومنها على سبيل المثال لا الحصر معدن الحديد الشديد البأس النافع للناس حيث قال تعالى في سورة الحديد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)}. ولم يُكتف في السياقات القرآنية الآنفة الذكر بسرد المعلومات الجيولوجية عن الجبال ومكوناتها المعدنية فحسب، بل وُسِّعت دائرة معارف تلك المعلومات في سياقات قرآنية أخرى لتشمل أبعاداً قياسيةً مرجعيةً ارتكازية تعكس التماثل العددي بين السماوات والأرض، حيث قال تعالفي سورة الطلاق: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}.