محمد نديم أنجم بيديا
الحرب! الحرب! كلمة تستفز نشاز الرعب - قرقعة الفكوك الحديدية، لسعات البارود الموجعة، أصداء أضغاث أحلام متكسرة وموسيقى الدماء القرمزية تضرج اخضرار المروج. غير أن من بين طرش البلبلة هذه تهمس إلى آذاننا همسة خافتة يتردد صداها بما يستعلم عن مدى مشروعية ما تعتمد عليه السمفونية الحربية المتشوّه الخلقة وكيفية نسج التبرير لها من كفن جثث هامدة طهرت ذيولها وصفت مشاربها.
تضمر نظرية «الحرب العادلة» في طياتها تناقضاً تمخض عن تصفيف القرارات السياسية الجدباء على رفوف الوقائع الحشوية التي يستعرضها تناثر أشلاء الساحات القتالية، مما يتمثّل في عملية ترميم تصدع حضاري جسيم بترشاش العطور المزيفة. ومهما علت أماني الأمم وتطلعاتها فإنها تخفق في إلباس الحقيقة الجوهرية القناع، مما يؤذن بأن الحرب تطلق الحبل على الغارب لبهيمة وحشية تواقة إلى التقام الجنود والنسيج الحضاري بأسره في لقمة فحسب.
وتدور رحى هذا السيناريو البشيع على حيوات سواد الناس الذين لا يعدون كونهم مجرد بيادق وخسائر جانبية على إثر لعبة شطرنج محسوبة فخمة. ويصارع حالياً اتخاذ مبادرة حمائية للأبرياء حتى يجسد نبراساً باهتاً يحد من جيشان الهمجية بين تلاطم أمواج ملاحم حامية الوطيس. كما يبدو الحفاظ على النسمة الإنسانية زراعة زهرة رقيقة القوام في بركان يكاد ينفجر من ألسنة ثورة من النار.
وتخيم أشباح المبادئ التناسبية جثماً على الأنفس المتدنية قيمتها مثلما يسير طيف على أجنحة الأثير تختنقه أدخنة المعارك وحرائقها، مما يذهب بالمثل الذي طبقت شهرته الآفاق «الغاية تبرر الوسيلة» أدراج الرياح دون جدوى في حين تأخذ على عاتقها الوسائلُ تنفيذ إبادة منهجية إنسانية وتضمن إراقة أنهار من دماء الولدان والعذارى على السواء دون تمييز. وتتجسم هذه المعاضل في حسابات دموية بما يرافقها من الجيف البشرية التي غدت مجرد عملات قاتمة السواد تتداولها من وراءها أكف صلبة كالصوان وقلوب كالفولاذ وعقول تغشت بغيوم حاقدة كعاصفة كانون الهوجاء دون أدنى تردد أو تحسس بالإنسانية.
ربما لا يكمن تقييم مدى عدالة الحرب في الإعلانات السامية الرسمية لكن أحرى به الاستقرار في استبطان كيفية استقصاء البدائل السلمية وتطبيق الأدوات الدبلوماسية التي تسبق إطلاق أول طلقة للحرب. وهل تكفل الحرب بأن الكارثة المدمرة ستضفي على وجوه الحضارات مسحة من المستقبل الأكثر إشراقاً أم هي مجرد قمار تطوقه التهلكات من كل حدب وصوب حيث تستعر نيرانه بحطبات القومية التعصبية.
ولا تتلاشى في الهواء ندوب الحرب ولا تضمحل جروحها اضمحلال الغبار في الجو بمجرد خمود أزيز المدافع و هدوء طنطنة المدرعات، إلا أنها تمتد إلى أن يرن في آذان ضحاياها رنين الرهبى وعويل الجرحى وأنين الثكلى وصراخ رضيع يستحلب ثدي أمه القتيل حتى تخلف وراءها عواقب وخيمة، مما ترتبت عليه مجتمعات متحطمة، اقتصادات منهارة وأجيال تثقل كاهلها أعباء صدمة نفسية. ومن هذا المنطلق يستدعي الادعاء على أخلاقية الحرب التزاماً راسخاً بإعادة الإعمار وتعهداً حاسماً بمداواة القروح التي تسببت فيها داء الحرب وعناصرها.
ومن تحصيل حاصل أن يرتسم لنا مدلول كلمة «الحرب النبيلة» مشياً على حبل مشدود، إذ لا نطيق تجسير المهاوي الأخلاقية التي بعثها نكبات إنسانية تلدها الحرب فيما نتابع الحرص على تسويغ قاطع للنزاعات المسلحة. ولن يفوح أريج الظفر الحتمي من انتصار مؤقت قد يتحقق على قلب المعترك عكسَ ما علينا من أن نحفل به من السعي الدؤوب إلى الحلول السلمية ما لا بد لها من انطلاقها من نفوسنا باقتلاع الشر منها والغطرسة وبزرع مكانها بذور الانفتاح الاعتقادي وحبوب الحوار المشترك، توصلاً إلى حصد الانسجام العالمي المزركش بالأخوة الدولية ومن ثمة إلى تدمير الأسلحة وتحويلها إلى آلات بناء وإعمار، حيث يسود التآلف الذي يوجّه القوى المتناحرة المتضاربة التي تكون حصيلتها العدم واللا جدوى فيما لو بقيت متعاكسة، وانتهاءً بعالم تتردد ألحان السلام فيه عالية على وجه المدافع المدوية.
** **
- الجامعة العالية - كولكتا، الهند