د. غالب محمد طه
في عام 2019 فازت الأم البرازيلية «سيلفيا جريكو» بجائزة الفيفا لأفضل مشجعة بعد أن شوهدت وسط الحشود على أحد المدرجات وهي تشرح في المباراة كاaملة لابنها الكفيف البالغ من العمر 11 عاماً..
وقبلها بأكثر من مائه عام غيّرت والدة أديسون التاريخ عندما عدلت في تلك الرسالة التي وصلتها من المدرسة التي كان يتعلم فيها ابنها وتم طرده منها بسبب بطء استيعابه باعتباره غير مؤهل للتعليم المدرسي. وعندما سألها ابنها عن فحوى رسالة المدرسة نظرت مباشرة لعينيه المترقبة وقالت «ابنك عبقري، هذه المدرسة متواضعة جداً بالنسبة له.. من فضلك، علَّميه في المنزل»؛ لتظل بعدها البشرية مدينة لها حتى اليوم بفضل هذه الكذبة. ولم يكتشف أديسون حقيقة فحوى الرسالة إلا بعد وفاة أمه بفترة، وعندما وجدها قرأها وهو يبكي، وكان مضمونها الحقيقي «ابنك مريض عقلياً ولا يمكننا السماح له بالذهاب إلى المدرسة بعد الآن». تأثر أديسون بما فعلته والدته، فكتب في مذكراته «توماس ألفا أديسون كان طفلاً مريضاً عقلياً، ولكن بفضل أمه البطلة أصبح عبقري القرن».
وقبلها بألف عام أو يزيد منح الإسلام المكانة اللائقة للأم وكرمها قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} (الإسراء/ 23).
وفي ذلك تأكيد على الأمر ببرها، فقد فضّل منزلتها على منزلة الجهاد في سبيل الله تعالى «بر الوالدين أوجب من الجهاد في سبيل الله» أي جهادك في أمك جهاد عظيم، الزم أمك وأحسن إليها، فأي مكانة عظيمة وفضيلة حظيت بها الأم وقد جعل الله عز وجل بر الوالدين جزءًا من العبادة والتوحيد، ومنحها البشارة ولا أشمل ولا أشرف منزلة وعلو شأنها على تأكيده عليه السلام عندما قال: «إنَّ اللهَ يُوصِيكمْ بِأمَّهاتِكمْ ثلاثًا، ثمَّ أبوكم» فأي شرف ذاك وأي منزلة عظيمة تلك التي استحقتها الأم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها ثلاث مرات دلالة على علو المنزلة والصبر والقوة والتحمل في حمل جنينها {وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} أي جهداً على جهد. فلا غرو إذاً على أهمية برها وحُسن صلتها وعظيم دورها على مجمل التاريخ الإسلامي والإنسانية جمعاء.
وقد اهتم ديننا الحنيف في بناء الدولة الإسلامية بالمرأة لأنها الأساس المتين لبناء الأمة المسلمة، فبنظرة سريعة على تاريخ السيدة سميه بنت الخياط في بدايات التوحيد، نشاهد تلك المرأة العظيمة المؤمنة، التي نالت شرف أول شهيدة في الإسلام، سيرة نضرة تخبرنا عن سر عظمة نشأة فلزتها الصحابي الجليل عمار بن ياسر ودوره في بداية الدعوة المحمدية، فأي تربية وأي مواقف صلبة قد غيرت حياته، وبعد استشهادها؟ يالها من أسرة، تكفها بشارة خير البرية ب « صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة».
وتتوالى صور الأم وتمر كشريط سينمائي على الذاكرة لتمنحنا العظة والعبرة، دعونا نتوقف قليلاً مع تلك الصورة الأكثر جمالاً في التاريخ الإسلامي، عندما استفتت السيدة أسماء بنت أبي بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشأن أمها التي قدمت عليها وهي مشركة» أفأصل أمي؟ فأجابها رسول الرحمة» نعم صلي أمك. أي بر هذا وأي تربية نبوية تلك، وصورة أخرى باهرة لا تقل رواءً وجمالاً عن دور الأم حاضرة في التاريخ الإسلامي العظيم وتتراءى لنا في نشأة الإمام البخاري الذي نشأ يتيماً ضريراً في حجر أمه فقامت على تربيته أحسن تربية، أخرجت لنا بعد أعوام قليلة البخاري الذي أخرج لنا أعظم كتب الحديث بعد القرآن الكريم.
فكم من طفل نبغ في تاريخنا الإسلامي العظيم بفضل الأم وحسن تربيتها وغرسها لقيم الإسلام الحقة، وكم من أم منحتنا أشجاراً وارفة الظلال عظيمة شامخة في كل مجال تذوقنا ثمارها علماً ومعرفة وأنتجت لنا علماء في كل دروب المعرفة، فمن يكافئها غير الله عز وجل. فهل نحتفل اليوم بعيد الأم؟ حاشا والله فمن كرمها الإسلام وخلدها القرآن أكبر شأواً في جعل تعظيمها عبر يوم واحد ويكفينا أن نردد سوياً قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان/ 14)، وفي الأمر كفاية فلنقدر دورها ونحتفل بعظمتها في كل يوم وإلي قيام الساعة.
ودور الأم في الإسلام لم يقتصر على بناء الأسرة فحسب، بل امتد إلى مساهمتها في بناء الدولة والمجتمع.
فالأم هي المربية الأولى للأبناء في ظل انشغال الأب بتحصيل الرزق، حيث تقوم بتربية أبنائها على القيم الإسلامية والأخلاق الحميدة الأمر الذي عزز من استقرار المجتمع وأسهم في بناء أجيال واعٍية ومثقفة.
فعدم تعليمها لم يقدح يوماً في دورها في إنتاج أجياٍ من العلماء والمثقفين والعباقرة.
الأم برها واجب على الأبناء لنحتفل في كل يوم بعظمة الأمهات ونقدّر تضحياتهن!
فدعونا اليوم وكل يوم نعبّر عن امتناننا للأمهات ونقدّر تضحياتهن وحبهن ونقدم إليهن برنا الذي لا يعد ولا يحصى. فهي الوطن وتمثل لنا الأرض التي ننبت فيها ونكبر، فبناء المجتمع الراشد يقوم عليها، فالأمّ هي الأمّة، أي الوطن والانتماء والجذور والمستقبل، والوطن يعكس حنان الأم، وهو المكان الذي نشعر فيه بالأمان والحماية، والذي نعمل من أجله بشغف لنراه عالياً نحميه ونلجأ إليه فهو المتكأ والأمل. فالأم والوطن هما جزء من هويتنا وروحنا وتطلعات غدنا، لنحتفل بعظمة الأمهات وبالوطن الذي ننتمي إليه في كل ساعة فهو مصدر قوتنا ونحن أساس لبناته.
همسة أخيرة..
كل يوم وكل الأمهات بخير..
كل يوم وأم عفراء بخير..
وكل يوم وأمي (منيرة) تنير الحياة بالمحبة والدفء..
وأختم بأبيات أبو العلا المعري:
العَيشُ ماضٍ فَأَكرِم والِدَيكَ بِهِ
وَالأُمُّ أَولى بِإِكرامٍ وَإِحسانِ
وَحَسبُها الحَملُ وَالإِرضاعُ تُدمِنُهُ
أَمرانِ بِالفَضلِ نالا كُلَّ إِنسانِ