د. جمال الراوي
«كلما ازدادت ثقافة المرء، ازداد بؤسه» The more culture a person increases، the more misery he becomes، حكمة أو مقولة عالمية تتناقلها الشعوب فيما بينها، وردت عن الكاتب والطبيب الروسي «أنطون تشيخوف»، وتبدو غريبة، لأن الثقافة سبيل الإنسان للسعادة، بما يكسبه من خبرة ومعرفة بالناس وبالحياة، ومن المفترض بها أن ترشده إلى مواضع الخير، وتحذره من مكامن الشر!!... بينما هذه المقولة أو الحكمة، تشير إلى عكس ذلك!!... لماذا؟!
في حقيقة الأمر، قد يكون المقصود بمقولة: «كلما ازدادت ثقافة المرء، ازداد بؤسه»، أن هذه الثقافة سوف تزيد أعداد الحاسدين والطامعين، الذين يسببون له البؤس والشقاء!!
وقد يكون المقصود أن زيادة الثقافة تجعل المرء يطلع على بعض خفايا ما يجري في هذا العالم، فيعرف بعض أسرار الأحداث، واللقاءات التي تجري من وراء الستار، فيصاب بالكآبة والحزن، لدرجة أنه يتمنى لو لم يطلع عليها!!
وربما يكون المقصود أن زيادة الثقافة تعطي المرء القدرة على كشف زيف الواقع، وتمنحه فرصة الاطلاع إلى حقيقة ما يقال وينشر، فيفاجأ بالأعداد الهائلة من الكاذبين والمتشدقين، مما يجعله يعيش في تعاسة وحزن، بسبب هذه الحقائق المخفية والمغيبة!!
وقد يكون المقصود من هذه المقولة، أنها تكشف للمرء المطبلين والمزمرين، فيصدم بكثرة أعدادهم، وبتنوع أشكالهم، بينما كان يظنهم من الصالحين والمخلصين والصادقين!!
وقد يكون المقصود، هو اختفاء الحقيقة، وأنه لا حساب ولا اهتمام ولا ذكر أو إشارة لها، وأن كل ما يقال هو أكاذيب، ولا اعتبار للمعذبين والمقهورين من البشر!!
وقد يقول قائل بأن هذه المقولة غير صحيحة، وأن زيادة الثقافة تعطي المرء الفرصة لاكتشاف الجمال والخير من حوله، وتجعله يتفاءل أكثر بأن السعادة والعدل لهما مكانة واسعة ومرموقة بين الناس، كما تمنحه القدرة على اكتساب الخبرات، والتعلم من الأخطاء، وتجنب العثرات، والبحث عن أفضل الطرق والوسائل لإسعاد نفسه ومن هم معه!!... فلماذا أخذت هذه المقولة الجانب الآخر، وأهملت هذا الجانب الإيجابي في الثقافة!!
في المقابل يوجد مثل إنكليزي يقول: «أنت وحدك في القمة» «It is lonely in the top»، ويعني أنك إذا وصلت إلى القمة، وترفعت عن الحضيض الذي يعيشه بعض الناس، سوف تجد نفسك وحدك، وسوف تصيبك الكآبة والوحشة، لا تجد أحدًا يقاسمك الفضائل والأخلاق، ولا يبادلك الصداقة والأخوة الخاليتين من المصالح والأهواء!!
في كل الأحوال، من يستطيع سبر بعض أغوار الواقع الكاذب، ومعرفة الحقائق أكثر، سيجد عجبًا، وسوف تصعقه الأكاذيب والأراجيف، وسيدرك بأنه لا توجد أي قيمة للعدل والإنسانية ولا للأخلاق، إنما هي مصالح متبادلة وتحالفات سرية ومعاهدات، لا يوجد فيها بند واحد، يشير أو يدعو للأخذ بعين الاعتبار لهموم الناس ومآسيهم!!
فالجهل في بعض الأمور، قد يكون نعمة، لأن الاطلاع عليها يزيد الحرقة في القلب، ويجعل المرء يعاني من وقع ما يجري في الخفاء، وسوف لن يستطيع أن يهنأ له نوم، ترد إلى خاطره أشباح المتآمرين والمنافقين، التي تتراقص أمام عينيه، لتقول له بأن العالم مليء بحفنة لا هم لها سوى نشر الفساد والضلال والخراب والدمار!!
يقول أبو الطيب المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وأيده أبو المعتز الأندلسي قائلًا:
وحلاوة الدنيا لجاهلها
ومرارة الدنيا لمن عقلا
وقد تختلف التأويلات والتفسيرات فيما أراده هذان الشاعران!! فقد وجدا صاحب العقل يعيش في تعاسة ومكابدة، بينما الجاهل يأخذ فرصته كاملة في الحياة، لكنهما لم يوضحا سبب ذلك، وهل العقل والعلم والثقافة سبب شقاء الإنسان، بينما الجهل والغباء والتخلف وسائط تصل بالإنسان إلى السعادة!!
فالعقل نعمة ومكرمة ربانية، أعطاها الله -سبحانه وتعالى- للإنسان، حتى يختار السبيل الذي يهديه إلى الخير، وحتى يصل إلى ما يفيده ويجنبه المزالق، وحتى يبتعد عن المطبات، بينما رأى هذان الشاعران بأن العقل قد يكون سببًا في تعاسة الإنسان وشقائه، وقد يكون سبب ذلك، كثرة تقليب -صاحب العقل- للأمور، ما إن ينوي فعل شيء ما، حتى يبدأ عقله في حساب العواقب، والتفكير في مآلات ما ينوي عليه، فتجده يتعذب، وهو يحلل ويفكر ويتردد، فيحرم نفسه من متعة اللحظة التي يعيشها، وتغيب عنه الطمأنينة، تسيطر عليه الوساوس والمخاوف، بينما الجاهل وغير المبالي يعيش لحظته، يتمتع بها، غير عابئ بما ستؤول إليه الأمور!!
وقد يفهم من هذين البيتين، المقارنة بين حال العلماء وحال الجهلاء!! تجد -في عالم اليوم- أصحاب الشهادات العليا في بعض الدول يحملون شهاداتهم، التي صرفوا عليها سنين عمرهم، يعرضونها في الأسواق حتى يحصلوا على أجور تعينهم على مصاعب الحياة، فلا يجدون من يشتريها منهم، بينما تجد بعض الجهلاء وفاقدي العلم والمعرفة يتربعون على المناصب، يأخذون النعيم كله لهم ولمن يتبعهم!!... فأصحاب العقل والعلم أشقياء وتعساء، بالكاد تجد من يحصل على ثمرة جهده وشقاء عمره، بينما الأغبياء والحمقى هم من يتمتعون بالثروات... فأصحاب العقل مبعدون عن المجتمعات، ليس لهم رأي مسموع، ولا أمر مطاع، بينما الجهلاء هم من يستلمون المنابر، وهم الذين تصغي لهم الآذان، وهم من تنفذ أوامرهم، وتلبى طلباتهم!!
حدثني أحدهم عن أستاذ وطبيب في إحدى الدول بارع في إحدى الجامعات المرموقة، له أبحاث عديدة، تربطه به صداقة، فذكر لي عن أحواله المادية والأسرية، بأنها صعبة للغاية، بالكاد يحصل على قوت يومه، لأنه يعيش على راتبه، بالمقابل يعرف أحد التجار، ممن كان زميلًا له في المدرسة الابتدائية، فغادرها بسبب غبائه وعدم قدرته على مواصلة الدراسة، فتوجه إلى التجارة، وإلى زيادة علاقاته بالمسؤولين، فزادت أمواله، وتعددت بيوته، وكثر من حوله التابعون والعاملون!!