ليلى أمين السيف
لا أعلم حقيقة ما الذي يزعج الكثيرين الآن من كون أحدهم شاحذاً الهمة باحثاً عن التمام ساعياً نحو الكمال رغم علمه أنه محال لكن همته تنطح الثريا وعزيمته تنحت الصخر، لا يرضى بالنقص ولا يقنع بالسكون.
تجدر الإشارة إلى أن صاحبنا الساعي نحو التميز يعلم يقيناً أن كونه مغرماً بالكمال لا يعني ذلك أنه كامل وكونه يناضل لتحقيق الأفضل لا يعني أنه مدّعٍ للمثالية فصاحبنا «المناضل» يؤمن إيماناً راسخاً أنه لا يوجد شخص كامل على وجه هذه البسيطة ولكن هناك من يجتهد وللقمة يسعى وهناك من ينتقد وبالسفح يرضى.
في الواقع ليس هناك ما يبرر تلك الكميات الهائلة من الانتقادات والحشد المهول عبر كثير من وسائل التواصل لتقزيم ذوي الهمم من الساعين نحو بلوغ الأهداف أو تحقيق الأفضل أو الانتقاص من سعي أمثالهم لمرتبات أعلى بل وصل الأمر ذروته حيث وصموهم بأنهم مرضى نفسيون و»ساعون نحو وهم الكمال».
أصحاب الرؤية الضيقة والأحكام السريعة - أو لنكن أكثر عدلاً حين نصفهم بـ «الحاسدون»- يعممون أحكامهم وفلسفة المتفذلكين على من يصادفهم من ناجح ومتميز لعلهم يفتّون في عضدهم أو يؤدّون همتهم. حقيقة هم لم يتعرفوا على أصحابنا «الساعون نحو الأفضل» عن كثب فتجدهم يحاولون إحباط من همّه النجاح ودأبه الفلاح. من جهة أخرى هناك من يسعى فقط ليقال عنه «ناجح» أو ليشار له بالبنان محاولاً الظهور بالمظهر «المثالي» وهو بعيد كل البعد عن التفوق والغلبة.
تجدر الإشارة إلى أن هؤلاء المنتقدين يخلقون عيباً في «المتميزين «من اللاشيء وتصرفاتهم وأقوالهم تنم عما تكنه قلوبهم من مشاعر لا مبرر لها سوى الحسد أو الانهزام حيث أصبح الاجتهاد والعمل عيباً ومنقصة لديهم وصدق القائل حين قال:
«ما لقوا في الورد عيب قالوا أحمر الخدين».
بادئ ذي بدء دعونا نسأل أنفسنا ما المقصود بالمثالية أو السعي نحو الكمال؟ سؤال لن أجيب عليه هنا فهذا ليس مجالي ولست خبيرة علم نفس أو باحثة اجتماعية. فكل له مفهومه الخاص بالنجاح ومتطلباته الشخصية للوصول. ولتنظر كل نفس وما يوافق طموحاتها وتطلعاتها أو لتقعد مع حسراتها على ذلها وسكونها. فهناك من يرى تقدمه البسيط إنجازاً عظيماً ولكنه في عين غيره يعد فشلاً ذريعاً أو ليكن على أفضل حال شيئاً عابراً لا يُلقى له بال لدى غيره مقارنة بالإمكانيات التي وهبها الله إياه ومع ذلك لم يحسن استخدامها.
بالتأكيد أننا نتفق مع أن كل شيء زاد عن حده انقلب لضده. نعم هناك «هوس» يردي صاحبه إلى المهالك وهناك «باعث» حثيث لولاه لما تفاضل البشر ولما تمايزوا.
علينا أن نقر أن «المثالية» ليست ثوباً يُشترى أو طبعاً يُستعار ولكنها «أصل» في طبع الإنسان وسمة من خصاله الحميدة وليست وجهاً يتصنعه أمام الناس أو سلوكاً يتزيا به أمام الغرباء لأن المواقف ستفضح صاحبها حتماً وستكشف زيف تصرفاته إن عاجلاً أم آجلاً.
قال ابن الجوزي رحمه الله:
«من علامة كمال العقل: علو الهمة والراضي بالدون دنيء»
إنني أعتقد أن الأشخاص الساعين للأفضل «متميزون» في كل شيء، فهم بارعون مهنياً، مبدعون عملياً، مهذبون أخلاقياً كما يُفترض بهم وفقاً لمعايير الأخلاق التي لا يمكن أن تتجزأ فقد تعلمنا أن طاهر القلب هو أيضاً طاهر في بدنه وقس على ذلك ما شئت.
في المقابل هناك من يمتلكون مواهب فذة لكنهم خاملون ذهنياً وبدنياً يخشون خوض غمار التحدي لاعتقادهم الخاطئ أولاً بصعوبة ذلك ولذبول همتهم ثانياً.
من عدل الله منح الجميع قدرات متفاوتة من الهبات والمزايا فهناك من أعطاه مالاً وآخر رزقه قدرات جسدية وثالث منحه ملكة الشعر أو الكتابة وهكذا فكلُّ ميسر لما خُلِق له. ورغم ذلك فإن هناك من لا يحسن استغلال تلك المزايا بل إن بعضهم لا يدرك كم يمتلك من منح عظيمة وهو لاهٍ بانتقاد ذلك أو استنقاص ذاك.
جمعتني الحياة بالكثيرين من ذوي القدرات البسيطة ولكنهم بعزيمتهم نحتوا الصخر وتحملوا المشاق وأصبحوا ناراً على علم. هناك بالطبع من وصل بكده واجتهاده وهناك من وصل باقتناص الفرص الحلال ومعرفة من أين تؤكل الكتف بدون احتيال. بعضهم ناضل بعز وشرف وآخرون ارتضوا الطريق المنحرف.
يقول المتنبي:
«ومَنْ يَجِدُ الطّرِيقَ إلى المَعَالي فَلا يذرُ المَطيَّ بِلا سَنَامِ
ولم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ شَيئاً كنَقصِ القادرِينَ على التّمَام»
من جهة ينتقص البعض من ذواتهم رغم قدراتهم العظيمة حين يتصرفون بكمال أقل مما كان بإمكانهم بذله فيستلذون حياة الدعة والشكوى أو الرضى بالقليل رغم إمكانية جني الكثير. وجّهت ذات مرة أحدهم وأنا أكاد أحسده على ما أعطاه الله سبحانه من قدرات في تعلم اللغات الحية وتعلم البرمجة الحاسوبية لكنه ارتضى بوظيفة مكتبية لا تُغني ولا تُسمن من جوع. وفي المقابل أبدعت أخرى في عملها وارتقت سلم النجاح بسرعة مهولة. كانت تعرف مكامن ضعفها فعملت على تحصين نفسها بسور من العلم والمعرفة وقرّبت إليها من يمكنها التعلم منه والاستفادة من قدراته وأبعدت عنها من يسيء لمكانتها أو يقلل من قيمتها. ولقد سمعت بأذناي تهامس «الحاسدات» عنها وأنها لا تستحق تلك المكانة رغم دأبها وسعيها للوصول وليس ذلك فحسب بل إنها في كل مرة تكافح لتصل لما بعد تلك المرتبة.
وليس يؤلمني نجاح هؤلاء «قليلو الحظ في القدرات» بل إني أفرح لهم وأغبطهم لسعيهم وحبهم للمثابرة ولكنني أتألم لمن حباه الله بقدرات يتمناها غيره فعطلها وارتضى الدونية وحياة القلة واستسلم لليأس وللطريق السهل.
لا يدرك المجد إلا سيد فطن
بما يشق على السادات فعّال
لولا المشقة سادَ الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتّال