د. جمال الراوي
تمر على الإنسان مرحلة يشيخ فيها عقله، ولا يعود يملك القوى الإدراكية كما في السابق: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} (النحل:70)، وقد ورد في التفسير، إنما نرده إلى أرذل العمر ليعود جاهلًا كما كان في حال طفولته وصباه، لئلا يعلم شيئًا بعد علم كان يعلمه في شبابه، فذهب ذلك بالكبر فنسي، فلا يعود يعلم منه شيئًا، بعد أن انسلخ الإنسان من عقله، فصار من بعد عقل كأنه لا يعقل شيئًا... وتشير هذه الآية القرآنية إلى الخرف الشيخوخي حينما يصل الإنسان إلى سن الخامسة والسبعين عامًا. ومرض «الزهايمر»، التي قد تشمله هذه الآية الكريمة، كونه من أمراض الشيخوخة، حينما يفقد الإنسان المحاكمة العقلية ويتصرف بطريقة طفولية ساذجة!!
في بداية مرض «الزهايمر»، يشكو المصاب به، من صعوبة في تذكر الأشياء وتنظيم الأفكار، ويقول لمن حوله بأنه لا يستطيع تذكر الأحداث والأشخاص والأشياء والأحداث القريبة، ومن المحتمل جدًا أن يلاحظ أحد أفراد العائلة أو الأصدقاء تفاقم الأعراض عنده، حيث يبدأ المرض بمحو جميع ذاكرة المريض الحديثة، ثم يبدأ بالتصرف بطريقة غريبة، والقيام بأفعال شاذة.
وأول حالة مرض «الزهايمر» رأيتها، عند مسن تم إحضاره، إلى قسم الطوارئ، بعد أن أدخل دبوسًا غليظًا في إحليله، وكانت الدماء تقطر منه، وظهر بأنه مصاب بتضخم في البروستات «الموثة» مع انحباس متكرر في البول، فأراد أن يفتح مجرى البول بالدبوس ظنًا منه بأن مجرى البول مسدود بعائق، ولدى استجوابنا له، ظهرت لنا أعراض مرض «الزهايمر» واضحة عليه، فقد كان فاقدًا للذاكرة، مع تيه في الزمان والمكان، مترافقة مع تغيرات في المزاج والشخصية، ولدى إجراء صورة شعاعية مقطعية للدماغ تبين وجود ضمور دماغي صريح مع زيادة في عمق التلافيف الدماغية، أما الدبوس فكان إخراجه صعبًا جدًا بسبب انحشاره في الأنسجة مع تمزق شديد في الإحليل، ولم يكن ذلك المسن مباليًا لما يجري، وكانت عمليته الجراحية معقدة، ولم يبد أي اهتمام بالعملية وبمضاعفاتها، وكانت تصرفاته شاذة، وقد حاول مرات عديدة مغادرة المستشفى رغم وجود قسطرة بولية مع نزيف متواصل من الإحليل.
ولاحقًا، رأيت حالات أخرى في الجوار، لمسنين أصيبوا بهذا المرض، فقد كنت ألاحظ تصرفات غريبة وشاذة عندهم، مع فقدانهم الاهتمام بأنفسهم، وكان بعضهم لديه خلط في الأشياء مع اضطراب شديد في الذاكرة، واضطراب في الكلام والتفكير، وبعضهم كان يتذكر حوادث سابقة وقديمة جدًا، ويحدث عنها بصورة غريبة، عدا عن الاضطراب الصريح في استعمال الجمل والمفردات، حيث يبدو الكلام غير متناسق ولا مترابط... كما كان أحدهم يترك حذاءه ينخلع من قدمه، ثم يواصل السير حافيًا، فيبدأ الأهل بالبحث عن الحذاء، وقد لا يجدونه... ومن الأعراض المعروفة لهذا المرض هو التيه والضياع من البيت، وقد يخرج أحدهم من بيته، ولا يعود إليه، وقد وضع أهل أحد هؤلاء المرضى إعلانًا في معظم المساجد بالمدينة، وكتبوا فيها بأن أحد المسنين في العائلة خرج من البيت ولم يعد، ومضت أشهر طويلة والإعلان لا يزال معلقًا، وأغلب الظن أنه كان مصابًا بمرض «الزهايمر»!!
وقد سمي الداء على اسم العالم الألماني Aloysius Alzheimer؛ الذي وصفه لأول مرة وسمي مرض «الزهايمر» Alzheimers disease، وهو مرض يختلف عن الخرف الشيخوخي الذي يترافق مع هذيان وتناقص في القدرة العقلية، مع تقدم العمر وخاصة عند المسنين الذين تبلغ أعمارهم الثمانينيات، أما مرض «الزهايمر» فيصيب أعمارًا مبكرة نسبيًا، ويعتقد بأن له عوامل وراثية... ومن المشاهير الذين أصيبوا به الرئيس الأمريكي «رونالد ريغان» والممثل المصري «عمر الشريف»، ويعتبر المرض من أشهر الأمراض العصبية التي تصيب ملايين الناس حول العالم، و هو عبارة عن حالة من تلف الخلايا العصبية، تؤدي إلى فقدان في الذاكرة القصيرة، حيث يتذكر المريض طفولته جيدًا، لكنه لا يتذكر أين يسكن، وقد ينسى أسماء أبنائه وأقاربه، ولا يتذكر ماذا أكل في اليوم السابق، وغير ذلك من أفعال وأحداث قريبة في الزمان والمكان.
وأخيرًا، فقد أجريت دراسات كثيرة على هذه المرض، فوجدوا ممارسات وأعمالًا وأفعالًا، تحرض وتؤدي إلى الإصابة به؛ منها أنماط النوم السيئة، مثل الصعوبة في النوم أو الاستمرار في النوم لفترات طويلة، أو النوم متأخرًا والتعود على السهر، وكذلك قلة ممارسة الرياضة، والعزلة الاجتماعية وعدم الانخراط في العلاقات الاجتماعية، كما أن التدخين والسمنة وارتفاع الضغط الشرياني وارتفاع سكر الدم، تشكل عوامل إضافية في تفاقم المرض... وقد أظهرت الدراسات بأنه لا يمكن علاج هذا المرض، إلا أن الحفاظ على مهارات التفكير في القراءة والمتابعة، والمشاركة في الأحداث الاجتماعية، تؤدي إلى انخفاض خطر الإصابة به.