د. جمال الراوي
ليس القصد بالجدال، هو الذي يلجأ إليه صاحب مظلمة، حينما يجادل القاضي ويثبت له بالحجة والقرائن حقه! ولا الجدال بين طالبي علمٍ يريدان أن يصلا إلى الجواب الصحيح فيما يتجادلان حوله! ولا الجدال بين عاقلٍ مدرك يجادل بالعقل والمنطق وبين سفيهٍ يجادل بالهوى الذي يتحكم بتصرفاته! ولا الجدال بين خصمين؛ الأول يتكلم بالعدل يريد درء مفسدة أو جلب مصلحة، والآخر يتكلم بالتشفي ويبغي الانتقام من خصمه مع تسفيهٍ لرأيه!
كل ما سبق، هو من الجدال الذي نعرف دوافعه ونعرف أسبابه ونتائجه، أما الجدال الذي لا فائدة منه ويعتبر مفسدة للعقول والنفس، ويجلب، دائمًا، الضغينة والأحقاد، هو الجدال بين رأيين أو فكرتين أو موقفين، وهو الجدال الذي يريد به صاحبك أن تقتنع بوجهة نظره بعد أن وصلت إليه معلوماتٍ عن مجموعة أو أحداث، بينما أنت لا ترى ما يراه، ولا تجد تبريراته كافية، وهو يلح عليك أن تقتنع بوجهة نظره، ويلجأ أمام إصرارك إلى تسفيه نظرتك للأمور وبساطة وسذاجة تفكيرك، لأنك لم تشاركه ما وصل إليه من حقيقة وقناعة.
ترد على صاحبك وتقول له: أنت تريدني أن أرى ما ترى، وأن أؤمن بما تؤمن به، وتريدني أن أكون تابعًا لك، وأن ألوي عنق أفكاري حتى تتوافق مع أفكارك، وتريدني أن أوافقك الرأي فيما تقول، لكني لا أستطيع! لأني لا أرى أية مصلحة في أن أحمل نفس الفكرة التي تحملها، ولأني أرى فيها مفسدة لاعتدالي ولحيادي ولقناعتي، وأنا أريد أن أقف في المنتصف أو إلى طرف الحق الذي وصلت إليه، بينما أنت تجرني إلى الجهة التي تقف فيها، وقد استولت عليك الفكرة وتمكنت من كل كيانك، وأصبحت لا تتصرف إلا ضمن هذه القناعة ... فأقول لصاحبي، انظر إلى نفسك في المرآة فمنظرك يخيفني لأن الفكرة استحكمت على كل جوارحك، وأصبحت تتصرف ضمن نطاق هذه الفكرة، وتريد أن تغيّر الدنيا كلها حتى تتبعك.
هؤلاء الأشخاص، لا يعجبهم أن يقف أحد في المنتصف أو يقف عند حدود الحق الذي يراه، ويريدون منه أن يكون إلى جانبهم وفي صفهم، وأن يجعلوا الآخرين تابعين لهم، هؤلاء إذا قالوا لك إن هذا الرجل سيئ، فهم لا يريدون منك أن تجادلهم وأن تثبت لهم بأنه ليس بسيئ، ولا يقبلون منك أن تقول لهم: «لا أعرف ولا أريد أن اتخذ رأيًا في شخصٍ لا أعرف سريرته»، فهم فقط يريدونك أن تصدقهم، ولا يقبلون أن تشكك في رأيهم، وإذا عاندتهم فسوف تجدهم ينفجرون في وجهك، وقد يتهمونك بقصور العقل والتفكير ... فالجدال مع هؤلاء فيه مفسدة عظيمة؛ لأنك إن اتبعت رأيهم دون أن تصل إلى القناعة الكاملة، فسوف تكون سببًا في ظلم الآخرين! أما إذا عاندتهم وقلت لهم إني أعرف غير ما تعرفون فإنهم سوف يتهمونك بالجهالة وأنك تقف مع الباطل، وأنك لم تستطع التعرّف على الحق الذي تعرفوا عليه!
أما الوسطية والاعتدال، فلم يعد لها أي أثرٍ أو وجود في أيامنا هذه، التي كثرت فيها الفتن، وأصبحت مثل قطع الليل المظلم! والعجب كل العجب، لمن يعطي رأيه بكل صراحةٍ ووضوح، ويحكم على البشر بالسوء أو بالخير، ويصر على ذلك، ويضطرك إصراره على التساؤل، إن كان قد وصل للحق أم أن الهوى دخل إلى قلوبه! فتتساءل: ما هذه الجرأة التي يتكلم بها بعض الناس! وأين الخوف والتقوى أن تكون آراؤهم وكلماتهم سببًا في جلب مفسدة! ولماذا لا يقفون في المنتصف؟! ولماذا لا يداري هؤلاء آراءهم بشيءٍ من الحيرة والتردد لعل الله يكشف لهم أمرًا آخر؟! لأن الكثير من الآراء تأتي من الصدور المحتقنة، وليس من العقول!
ويبقى السؤال: كيف تجادل، وما هو السبيل لإقناع الآخرين؟! فقد صدرت دراسات كثيرة حول المجادلة والإقناع، وهي في معظمها تعطي نصائح حول الطريقة المثلى لمحاورة الآخرين، لأن معظم الخلافات والخصومات سببها عدم اتباع الطريقة الصحيحة في المناظرة، فيتحول الحوار إلى سجال كلامي، لا يؤدي إلى أي توافق أو انسجام، بل يصبح خصومة وعداوة، وقد كان الأولى اللجوء إلى المهادنة واليسر في الجدال، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125)، وفيها دعوة للمطامنة؛ أي إدخال الطمأنينة والسكينة إلى من تحاور وتجادل، لأنها المفتاح الذي به تستطيع الدخول إلى قلبه، وإيصال فكرتك إليه، وجعله يشعر بأنك لا تقصد الغلبة عليه، ولا تريد ترذيل شخصه، وتسفيه أفكاره، وتقبيح قناعاته.. وعليك أن تعلم بأن للنفس الإنسانية قيمتها وكرامتها، ومن واجبك أن تشعر من يقابلك بأن ذاته مصونة، وكرامته محفوظة، وأفكاره محترمة.
وأول خطوةٍ تخطوها في المجادلة هي أن تفهم من يقابلك، وأن تنظر في أحواله، ووضعه النفسي، وتركيبته العاطفية، ومستواه الثقافي، وأن تعرف ظروفه وغايته من النقاش، ومراده منه، إن كان يريد مغالبتك والتفوق عليك، أو أنه يسعى للفهم والتعلم، أو أنه مجرد عابثٍ ومراوغٍ، يسعى إلى إقلاقك والتشويش عليك، وحينها عليك أن تتوقف حالًا، وتركه يزبد ويرغي بما يشاء، وتجنب الرد عليه، لأنه يبغي إثارتك وانتظار ردود أفعالك، ولأنه يهدف لجعلك في موضع المتهم، حتى تبدأ تدافع عن نفسك، وقد يلجأ إلى كلامٍ استفزازي، ويقول لك بأنك لا تفهم أو أنك غبي، أو غير ذلك من كلماتٍ لتهييج عواطفك، وحينها من الواجب ألا تدافع عن نفسك، أبدًا، وعليك ألا ترد هذه التهمة عنك، ولا تقل له بأنك أفهم منه وأنه هو الغبي، وغير ذلك! والأفضل أن تقول له مثلًا: بأنك قد تتغابى أحيانًا، وتصبح قليل الفهم، وهو لن يأخذها كنقطة رابحة عليك، وإنما سيصدمه هذا الرد، فيجعله يعدل من هياجه، فيشعر بأنك ذو رحابة صدرٍ، وسعة بالٍ.
وفي الخطوة التالية، عليك أن تستمع جيدًا لمن يحاورك، وقد قيل: «اصمت ثم اصمت ثم اصمت»، وعليك أن تتمعن جليًا فيما يقوله لك، وفهم مقصده وغايته، وحاول أن تكتشف مكامن الخلاف، ونقاط الاتفاق بينكما، وعليك أن توزن مقدار حججه والبراهين التي يوردها لك، وإياك الاستعجال في الرد عليه، قبل أن تعرف أين موضع الخلاف بينكما، وما هي أسبابه وقوته، وما هي المسافة التي تبعد محاورك عنك! وهل هناك دوافع عاطفية ونفسية، تقف وراءها غيرة وحسد، أم هي منافسة ومغالبة، أم هي مجرد مفاخرة ومباهاة، وحينها عليك ألا تواصل النقاش، وتوقف حالًا، ودعه يكمل حديثه حتى النهاية، وحاول أن تفهمه بأنك قد أوصلته إلى غايته، وأنك عرفت مراده، وحينها سوف ينكفئ على نفسه، ويشعر بصغارها، وسوف ترتد مفاخرته ومباهاته لذاته، فتصبح استكانةً وتواضعًا، وقد يبدأ بالدفاع عن نفسه، بالقول بأنه لم يبغ من هذا النقاش التباهي والمفاخرة بذاته وأفكاره!
وعليك بعد الاستماع الجيد، والإصغاء لأفكار محاورك، أن تعيد عليه ما قاله، وحاول أن تكرر عليه كلامه، وتسأله عن مقصده، حتى لا يناور مرة أخرى، ويتراجع عمَّا قاله، وإياك أن تدعه يلجأ للمناورة والتحوير، وذلك بتكرار ما قاله تمامًا، وانتظار موافقته وتصديقه عليه، أما إذا وجدته ممن لا يضع أي اعتبار لكلامه، ويتهرب منه، ويحاول تحويره وتدويره، ويسعى إلى المراوغة والتدليس، فحينها عليك ألا تستمر، لأنك لن تجد أي فائدة من المواصلة معه، وسوف تزداد شقة الخلاف بينكما، وقد تتحول إلى عداوة وخصومة، وعليك أن تشعره بأنك قد استسلمت، ورفعت الراية البيضاء أمامه، وأنك لا تملك الحجج الكافية للمواصلة معه، وسوف لن يشعر، أبدًا، بأنه قد انتصر عليك، وإنما سوف يعرف هزالة نفسه، واضطراب أفكاره، وسوف يواصل التبرير والتسويغ لاختلاف آرائه واختلاطها.
فلا ترفع صوتك أبدًا أمام من تحاور، ولا تدع نبرة الصوت وقوته هي سبيلك للإقناع، وحاول التنازل عن بعض أفكارك وقناعاتك، إذا رأيت في ذلك مصلحة للحفاظ على علاقة طيبة ودائمة معه، كما أن عليك ألا تشعره بأنك قد تفوقت عليه وغلبته، وفي حال وجدت منه الموافقة لما تقول، فعليك ألا تتوقف عند هذه النقطة، وحاول أن تتجاوزها سريعًا، لأنه قد يتراجع عنها، وذلك عندما يشعر بزهوك وانتصارك عليه.
ومعظم الخلافات الأسرية، والخصومات بين زملاء العمل، سببها، الحماسة والاندفاع، واستعمال كلمات التأنيب والزجر، والمحاورة بالسباب والشتائم والشخصنة، وعدم اللجوء إلى الرفق والحكمة، فكثيرًا ما يختفي الخلاف في الرأي، وتبقى هذه المعايب في الكلام، لتصبح كراهية وبغضاء وخصومة، تبقى سنوات وسنوات، وقد تتوارثها الأجيال!... فكم من خلافاتٍ عائلية، توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد سببها كلمة نابية وجارحة، قيلت في الماضي السحيق، فأصبحت شجرةً خبيثة تطاولت في السماء، فظللت بغيومها وسوادها على أجيالٍ وأجيال، فالكلمة الخبيثة لا تنبت -دائمًا- إلا شجرة خبيثة.
في أي مرة تحاول الدخول فيها بجدالٍ مع أحدٍ من أهل الضلال، لا بد أن تشعر بالعطف عليه، تحاول جاهدًا دعوته للهدى، تخرج له كل خبرتك في فنون اللغة وبلاغتها، تحاول اختيار الحجة تلو الحجة، لكنك سرعان ما تكتشف بأنك كمن يضرب بقبضة يده على صخرةٍ صماء، ترتطم اليد بها؛ فيصيبها الأذى؛ فتحس الألم، الذي يصل إلى القلب، هو كالصخرة يرد عليك حججك، غير أبهٍ بها، ودون أن نجد لها أي أثرٍ في نفسه وفي قناعاته، يزيد أكثر فأكثر مقاوماً كل محاولة في اختراق جدران صخرة قلبه الصماء!