د. عبدالحق عزوزي
لا جرم أن المغرب الأقصى كما يعرف المتبحرون في التاريخ ظل من بين الدول العربية والإسلامية القلائل التي ظل فيها المجال السياسي الإسلامي التقليدي قائماً منذ أن بدأ تقنين هذا المجال في التجربة الحضارية العربية الإسلامية، وبالضبط في العصر العباسي الذي قامت فيه بالمغرب دولة مستقلة عن الخلافة العباسية هي دولة الأدارسة، وأشير هنا إلى سير المرحوم الجابري عندما اعتبر أن «الدولة الوطنية» و»الهوية والوطنية» هما بمثابة سفحي جبل واحد؛ ولا يختلف اثنان في هذا الجانب على أن الدستور المغربي لسنة 2011 هو الأكثر تطوراً خلافاً لكل القوانين الأساسية في تاريخ المغرب. وقد كان من عادة المعلقين فيما قبل، التمييز بين خمسة نصوص، نظمت المؤسسات السياسية بالمغرب منذ سنة 1962 أي ابتداءً من دستور سنة 1962 مروراً بدستور سنوات 1970 و1972 و1992 و1996، علما أن ثلاثة منها تظهر على شكل قوانين أساسية جديدة واثنتين منها تعتبران مجرد تعديلين بسيطين..
وإذا كان التصميم التقليدي والخاص للقوانين الأساسية المعمول بها في المغرب قد تم الإبقاء عليه في دستور سنة 2011، فإن غالبية الأحكام تم تغييرها، وبدرجة عميقة في الكثير من الأحيان. ولقد ارتفع عدد الفصول بحدة ليصل إلى الضعف تقريباً: 110 فصول في سنة 1962، و101 في سنة 1970، و103 في سنة 1972 و102 و108 بعد تعديلات عامي 1992 و1996. أما عدد فصول دستور سنة 2011 فيصل إلى 180 فصلاً...
ولقد احتفظ دستور سنة 2011، وبعناية فائقة، على صيغة وردت في كل الدساتير السابقة، وهذه الصيغة تربط في نفس الوقت بين الطابع الإسلامي للمغرب والحرية الدينية لدرجة أنها تعتبر أن «الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية» (الفصل 3). فهي صيغة دستورية في غاية الدقة والتسامح وقبول الآخر وبناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك بعيداً عن التعصب، ويمكن اعتبار هاته الصيغة الدستورية لا تصاحبها أية إحالة على القانون لتنظيم ممارستها أو أي تحفظ على خطر الإخلال بالنظام العام، عكس غيرها من الحقوق والحريات المنصوص عليها في القانون الأساسي المغربي وعدد من الاعترافات بالحرية الدينية في بيانات دول أخرى.
وإذا كان التسامح الديني تقليداً قديماً جداً في المملكة المغربية، وسابقاً للاستعمار وفي مصلحة الذميين، فقد تضمن مشروع دستور 1908، أي أربع سنوات قبل بداية الحماية الفرنسية في المغرب، عبارة مفادها أنه «تحترم جميع الأديان المعروفة دون تمييز. وأتباعها لهم الحق في ممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية»، ولكن بهذا الاحتياط «شريطة احترام النظام العام». وقد اختفى هذا المرجع الأخير في دستور سنة 2011 ...كما أن صيغة «دولة إسلامية ذات سيادة» الموجودة بالفعل في الديباجة تضاف إليها بعد ذلك جملة جديدة معبرة: «كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء». وفي نص الدستور نفسه، نجد إشارة في الفصل الأول إلى «الدين الإسلامي السمح»... كما يشمل الفصل المطول حول الأحزاب السياسية منعها من أن يكون «هدفها المساس بالدين الإسلامي»، كما يمنع «أن تؤسس الأحزاب السياسية على أساس ديني» (الفصل 7 الفقرة 4 و5).
فالمغرب انخرط بوتيرة سريعة في سياسة الحقل الديني، وأعاد الاعتبار للتفكير العمومي كقاطرة لتدبير قضايا التحديث بالبلاد، وذلك بمراجعة العديد من القوانين والتشريعات المنظمة لهذا المجال، كتأسيس معهد الأئمة والمرشدات، وتبني مشروع طموح لتأهيل مدارس التعليم العتيق، ليتلو ذلك التأطير الديني للمغاربة المقيمين بالخارج، بإحداث مجلس علمي للجالية ....إلخ.
وفي إطار تجذير إسلام سمح وسطي ومعتدل، تم إحداث المجلس العلمي الأعلى (الفصل 41) والمجالس العلمية المحلية، وتمت مراعاة شرطين أساسيين في اختيار أعضاء المجالس العلمية في المغرب وهما القرب من الناس والالتزام المذهبي المالكي الوسطي المعتدل، فتعريف العالم لم يعد يقتصر على الحاصل على شهادات عليا في تخصص الدراسات الإسلامية، وإنما يعني بالدرجة الأولى الشخص الذي يحمل علماً شرعياً صحيحاً مع الالتزام بالمذهب.