د. شاهر النهاري
في الزمن الذي كانت فيه الشعوب العربية تصارع الاستعمار، وتتلمس طريقها نحو حريات وسعادة شعبية عربية يختلف كنهها، وتتباين طرق الحصول عليها، فكان العربي المقتدر يجلس بجوار صندوق سحري ضخم بني اللون، يصدر أصوات سحر تأتيه من عوالم الأثير، وتحفيز مردة الأساطير، بأوقات معينة من سهراته، وبنقاء يزداد حضوراً في سواد الليالي، ويتناهى للعدم أو التشويش في أوقات شدة الظهيرة.
أصوات الطرب العربية الشهيرة كانت تنتهز الفرص السانحة، لتبلغ ما خلف حدود المسرح، وبما لا تحمله الأسطوانة، التي كانت تصدر الصوت الغنائي بقوالب جامدة لا تشبه ما ينثره الأثير من النغمات المباشرة الحية المستعادة تأسر حس السامعين.
صوت الشابة أم كلثوم حينها كان سحراً نيلياً لا يماثله إلا ما يقال عن مزامير داوود، فكانت تتجلى وتتسلطن، وتنير أمسيات العرب المتأملين بالبهجة، من الخليج إلى المحيط.
وفي ليالي العيد كانت تشبعهم طرباً بأغنياتها الطويلة، ثم تحلي مزاج حياتهم بالمباركة بأغنية الأعياد:
يا ليلة العيد أنستينا، من كلمات شاعر القلوب أحمد رامي، وألحان راهب دير النغم رياض السنباطي.
أغنية كانت قد طرحتها 1939م، في فيلم (دنانير) الذي أدت فيه شخصية دنانير مغنية بلاط الخليفة العباسي هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكي، وبكلمات تناسب سيناريو الحدث الدرامي، والتاريخي، وخصوصية الزمان والمكان والسرد:
يا دجلة ميتك عنبر
وزرعك في الغيطان نور
يعيش هارون يعيش جعفر
ونحيي لكم ليالي العيد
وفي سنة 1944م أنعم ملك مصر والسودان فاروق الأول على مطربة مصر والعرب الأولى أم كلثوم، بوسام الكمال ولقب «صاحبة العصمة» بعد أن غنت أمامه تلك الأغنية المنعشة لبهجة الأعياد، في حفل النادي الأهلي 17 سبتمبر 1944م، حيث غيرت بيتين منها لتشعل الحفل بهتاف من حضروا ولادة الروعة:
يا نيلنا ميتك سكر
وزرعك في الغيطان نور
يعيش فاروق ويتهنا
ونحيي لُه ليالي العيد
ومن المشهور على من حضروا حفلاتها مسرحياً أنهم يدركون فرق ملامسة صفاء الصوت مسرحياً ودون حواجز، ولكن من لا يجدون من عموم العرب يتعلقون بحبال الأثير تشعرهم بحنين وطغيان دندنات السحر الفرعوني، وهم يتمايلون بين آهات اليمين ووقار الشمال، ويستزيدون من أنفاس السعادة، والأمل، والروحانية الرمضانية التي سبقت العيد، وما تفعله روح ليلة العيد السعيدة المكنونة بأحضان سعادة مجتمعاتهم.
لقد أصبحت الأغنية عيداً عربياً بحدِّ ذاتها تتردد في كل مدينة وشارع، أغنية لها مواسم ظلت تتجدد مع كل عيد فطر أو أضحى:
يا ليلة العيد آنستينا
وجددتي الأمل فينا
فينا يا ليلة العيد
ثم تشرح خريطة سماء المساء:
هلالك هل لعنينا
فرحنا له، وغنينا
وقلنا السعد ح يجينا
على قدومك يا ليلة العيد
وتزيد سعادتها في مديحها لكل ما يخص هذا العيد، فتزيد عين الهلال غزلاً:
جمعت الأنس ع الخلان
ودار الكاس على الندمان
ومن المؤكد أن الكأس والندمان يأتيان هنا على شكل فنتازيا روحانية لا يقصد به ما كان من ضرورات الفيلم العباسي، فيدرك السامع أن هذا الكأس والندمان، ليسا إلا شربات العيد والياميش والمشمشية والتمر هندي تمرّ على السامرين في ليالي العيد وروحانيته.
وتمعن في بديع الوصف، بالصوت العميق العذوبة:
وغنى الطير على الأغصان
يحيي الفجر ليلة العيد
ولا تنسى أن تحمل مستمعيها معها على رذاذ نسمة أمواج النيل المسائية، ورطوبة أجوائه العليلة، وبين جنبات روحها العاشقة، وهي تتذكر حبيباً لها شاركها يوماً في بهجة ليلة العيد:
حبيبي مركبه تجري
وروحي في النسيم تسري
وتستعين بمن معها من الساهرين، لكي يطردوا النعاس عن عين مقصود فؤادها:
قولوا له يا جميل بدري
حرام النوم في ليلة العيد
وتبوح بما في قلبها، بألحان متواصلة الحسن والبدع، يرددها كل من يسمع نجواها، حتى ولو كان في وحدته يناجي حنينه على أطراف الأرض:
يا نور العين يا غالي
يا شاغل مهجتي وبالي
تعالى اعطف على حالي
وهني القلب بليلة العيد
وكأنها تشعر أن مديحها لحبيبها ينشر الغيرة في القلوب، وفي ذرات النسيم، ويأتي دور الغيرة على روعة صفحة النيل، والتي تستأهل ألمجاملة والمغازلة:
يا نيلنا ميتك سكر
وزرعك في الغيطان نور
تعيش يا نيل ونتهنى
ونحيي لك ليالي العيد
فكأنها في الختام تؤكد أن النيل عطر وخمر وسعادة وحضن ووطن الساهر، وأن الأعياد تتكرر بوجوده وروعة خيراته وبقائه، وعودة أحبابه.
كان صوت أم كلثوم حينها عفياً يشابه صدى جبل صوان لا تنتهي أمواجه الصوتية، بعاطفة لا تكل ولا تمل عن ترديد نوتات الحب، وقد جمعت العرب على موسم أعياد تزهو وتتكرر، ووفاء وعزة عربية وشعور تمام يندر أن يطوف بالبلدان، بتلك الجمالية، والروعة والسحر الأثيري.
كثيرون غنوا بعدها للعيد وأبدعوا في الصور والرمزية، وكانت أغنية الأسمر البدوي محمد عبده من العايدين إحدى تلك الرموز والصور الخالدة الحميمة بالأعياد، ولكن سبق عصر أم كلثوم جعلها هي أساس العيد، وفرحته ورقصاته ونشوته: والليلة عيد، يا عيني، عالدنيا سعيد، الليلة.