حسن اليمني
حين يصل الاهتمام لطلبة الجامعات بقضية ما ويتحول هذا الاهتمام إلى نشاط جماعي مؤثر فاعلم أن هذا هو ما يحرك بوصلة الوعي والفهم في المجتمع بشكل عام، هذا فعلاً ما يحدث اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية.
لم يكن الموقف من المقاومة الفلسطينية في مواجهة العدوان الصهيوني من قبل النظم السياسية حول العالم إلا بمثابة الوخزة المنتظرة لإثارة الوعي العام العالمي الذي تفاعل بشكل سريع وانتشار واسع على مستوى العالم في دعم وتأييد المقاومة الفلسطينية ورفض الهمجية الصهيونية المدعومة من قبل الأنظمة السياسية، وهي مفارقة قوية وعميقة أججت مشاعر الإنسانية وحوّلت خيبة الأمل لدى الناس في غزة إلى شعلة أمل تشع في حنايا دمس الظلم والقهر الذي كاد أن يغلق الأفق على العدالة الإنسانية على مستوى العالم لتدخل القضية الفلسطينية مرحلة عالمية مختلفة عما اعتادت وسائل الإعلام في كل مكان على ضمانة سياقه ورسمه، لتظهر فاصلة كبيرة وواضحة بين اليقظة والتهجين.
هذا الفاصل بين اليقظة الشعبية الأممية والتهجين الإعلامي الكذوب هو أهم علامة فارقة على مستوى العالم بين عصر مضى وعصر قادم، وإن كانت الناس قد اعتادت على أن التحولات العالمية لمراحل العصور تظهر نتيجة أحداث سياسية وعسكرية فإنها وبتقاعس الإرادة السياسية في النظم الحاكمة لدول العالم وخاصة الغربي المتصهين بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ودواليبها الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا قد مزقت ونزعت غشاوة أو ستار المخادعة الإعلامية في قلب الحقائق وأيقظت بصائر الرؤية في شعوب العالم لترى الظلم والقهر والافتراس الحيواني الشرير في القوالب السياسية المخدومة إعلامياً زيف العدالة والشفافية واختلال ميزان الحقوق في تقليب الحقائق بوسائل الإعلام المحتل بالمال والشهرة ثمناً لقتل الإنسان والإنسانية.
واليوم تعم جامعات الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية ثورة وعي واستيقاظ في نواة الجيل القادم من طلبة هذه الجامعات وأثره على الشارع العام ووعيه، ومن المنطق في تفاعله وانبساطه على المساحة الأوسع في المجتمع أن يأخذ حيزه الزمني المعقول إلا أنه بتوافر وسائل التواصل الإلكتروني تجاوزت في نقل الخبر والصوت والصورة حقباً من السنين لتجعل حالة التغير أكثر سرعة وانتشاراً على مستوى العالم، ويدرك أتباع الصهيونية في الكيان المحتل وكذلك متدينو بني إسرائيل خطورة ذلك بما استدعى نتنياهو رئيس حكومة الكيان بإظهار رفضه العلني لما يدور في الجامعات الأمريكية واعتباره - كما هو معتاد - معاداة للسامية، والسامية بالتعريف الصهيوني هو الصهيونية وكل من يعاديها هو عدو للسامية ولا علاقة لسام بن نوح بشيء من ذلك.
إنها إحدى أهم النقاط التي خلقها السابع من أكتوبر للعام الماضي، نقطة وضعت في آخر السطر لعصر التأييد الأعمى للكيان الصهيوني ونقطة ابتداء ليقظة وعي على مستوى العالم ضد الظلم والقهر الصهيوني على شعب فلسطين، بل وصار ريشة ميزان بين الحق والباطل، بين العدل والظلم، بين الزيف والحقيقة، بين الإنسانية والبشرية، الإنسانية تلك التي تحيا بطبيعتها الفطرية والبشرية تلك التي تستوي مع الحيوانية في منطق وطبيعة وجودها دون قيم أو أخلاق.
إن الناظر بعمق وتأمل في ما يجري من أحداث حول العالم سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية لا بد أن يدرك ويرى بوادر التحول والتغير على مستوى العالم في الناحية الثقافية خصوصاً، الثقافية التي تمتد إلى الفهم والوعي والتفكير والسلوك والأخلاق باعتبارها الكينونة الفطرية للإنسان، وطبيعي أن يرى في هذه النشأة المتمثلة في يقظة عقول شعوب بعيدة كل البعد عن قضية عربية إسلامية أهملت بدواعي سيطرة القوة البشرية الخارجة عن قواعد الإنسانية وهي تتصادم مع أدوات البطش والقهر وتدنيس فطرة الإنسان الطبيعية بكل عنف ووحشية في أوطان تدعي رفع لواء الإنسانية وهي أشد أعدائها، هذا ليس دراما سينمائية أو ظاهرة دعائية ولا ومضة إشهار سطحية حين نتحدث عن عقل وطريقة تفكير مستجدة عن السابق في حشود اجتماعية انطلقت بصوت واحد رغم اختلاف اللغات والمعتقدات والثقافات والمسكنات الاجتماعية، ويخطئ من ظنها وقتية تمر عبر مرحلة تطويها، الأمر ليس كذلك كونها تغرز خلايا الوعي وتهز الوجدان الروحي والنفسي بما يبقي أثرها وينميه ويطوره تلقائياً بقاءً واستمراراً ضده.
أدرك أن في دهاليز الإدارة العميقة أو ما يسمى الدولة العميقة المتفرعة من نواة واحدة تدير سياسات العالم وأحداثه من يستشعر ذلك ويهيئ الآليات للسيطرة عليه وإعادة قولبته بما يخدم مصالح الرأسمالية واستثماراتها العالمية لكن هذا لا ينفي حقيقة وجود التحول في الوعي والفهم على مستوى العالم تجاه انكشاف زيف الخداع الإعلامي في توجيه الرأي العام وقد انكشفت حقائقه بالصوت والصورة المتناقلة عبر الوسائل الإلكترونية متجاوزة وسائل الإعلام ودوائرها الهندسية في صناعة التزييف والخداع، والحقيقة أن المخدوع اليوم هم من لا زالوا يعيشون عصر ما قبل السابع من أكتوبر ويؤمنون أن باستطاعتهم خداع الناس كل الوقت، والأسوأ في البؤس منهم أولئك التابعون بهديهم متمثلين ظاهر قوتهم دون أن يدركوا أنهم ليسوا سوى أدوات ماكينة عالمية تسعى لهدم إنسانية الناس وتحويلهم إلى بشر مفترس يتماثل وحيوانات الغاب في قاعدة البقاء للأقوى، ومع ذلك لا يفهمون ماهية القوة الحقيقية، هم يحسبونها في القتل والتدمير بينما هي في الطبيعة الفطرية أصالة الإنسان وتميزه بالعقل والفهم والوعي في الفصل بين الحق والباطل.
خلاصة الأمر أن ما يجري اليوم في غزة أظهر وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية ليعلن أن وقف إطلاق النار ممكن في حال استسلمت حماس دون قيد أو شرط لقوة الشيطان، وقول مسؤول آخر إن القول بقتل نتنياهو لأربعة وثلاثين ألف إنسان هو إبادة بشرية قول خاطئ ونتنياهو بريء منه، وحين يستمع عاقل لمثل هذه الأقاويل المسهبة في التخلف والتغطرس يدرك بشكل طبيعي إلى أي مستوى وصل الانفصال بين الإنسانية والبشرية في عالمنا اليوم، ثم يدرك بطبيعة الحال هذه أن ظهور هذا الوعي والاستيقاظ في العقول الإنسانية على مستوى العالم واتحاده في مواجهة مثل تلك الأقاويل السخيفة قد بلغ النضج للدخول في عصر جديد سيأخذ وقته الزمني بمراحل يشيب فيها شعر الرضيع، لكن هذه هي طبيعة التحول في صراع العقول والفصل بين إنسانية هابيل وبشرية قابيل.