عبد الله سليمان الطليان
مع زيادة قوة الحوسبة واكتساب الشبكات سرعات أكبر، تسارعت التبادلات التجارية، مما منح هذه التقنية كنيتها الشهيرة (التداول عالي التردد)، نشأ التداول عالي التردد في سوق الأوراق المالية استجابة لضغطين اثنين شديدي الصلة، نجما في الواقع عن تحول تقني فريد، هذان الضغطان هما زمن الاستجابة والشفافية، فمع تحرير أسواق المالية ورقمنتها إبان الثمانينيات والتسعينيات وهو ما سُمي في أروقة سوق لندن للأوراق المالية (بالانفجار الكبير)، أصبح من الممكن التداول في تلك الأسواق بسرعة أكبر ومن مسافات هائلة للغاية، الأمر الذي أسفر عن سلسلة من الآثار العجيبة.
تسافر المعلومات المالية الآن بسرعة الضوء، لكن هذه السرعة تختلف باختلاف الأماكن، إذ تختلف سرعة الضوء حين يعبر الزجاج عنها حين يعبر الهواء، وهو يصادف عراقيل عند مروره بكابلات الألياف الضوئية بسبب ضمها في حزم تخترق تبادلات معقدة، وامتدادها عبر عقبات طبيعية وفي قاع المحيطات، ويظفر بأثمن الجوائز أصحاب أقل زمن استجابة أي أقصر زمن مرور بين نقطتين، وهنا تدخل خطوط الألياف الضوئية وأبراج الموجات الدقيقة الخاصة إلى المشهد، في عام 2009 و2010 أنفقت شركة واحدة ثلاثمائة مليون دولار في بناء وصلة ضوئية بين بورصة شيكاغو التجارية ومدينة كارتيريت بولاية (نيوجرسي) حيث يقع مقر سوق (ناسداك) للأوراق المالية، أغلقوا طرقاً، وحفروا خنادق، وثقبوا جبالاً، وكل هذا في الخفاء كي لا تُكتشف خطتهم من المنافسين، وقامت إحدى الشركات الأمريكية المتخصصة، في تقليص المسافة الجغرافية أكثر، وجعلت من الزمن الذي يستغرقه انتقال رسالة بين مركز بيانات، من 17ميللي ثانية إلى 13 ميللي ثانية ومن توفير نحو 75 مليون دولار لكل ميللي ثانية.
تعني الرقمنة Digitisation أن يجري التداول داخل أسواق الأوراق المالية. وفيما بينها، بصورة أسرع. ومع انتقال السيطرة على التداول الفعلي إلى يد الآلات صار من الممكن الاستجابة بصورة شبه آنية لأي تغيير في الأسعار أو ظهور عرض جديد، لكن القدرة على الاستجابة تعني فهم ما يجري، والقدرة على انتهاز الفرصة. ومن ثم كما هو الحال في كل شيء آخر، جعلت الرقمنة الأسواق أقل شفافية بالنسبة إلى غير المؤهلين، وبالغة الوضوح للعالمين ببواطن الأمور، وفي هذه الحالة، كانت الفئة الأخيرة تضم أصحاب التمويل والخبرة اللازمين المواكبة تدفقات المعلومات بسرعة الضوء؛ أي المصارف الخاصة وصناديق التحوط التي توظف المتداولين من ذوي التردد العالي. لقد دخلت السوق الخوارزميات التي صممها أساتذة جامعات سابقون في علوم الفيزياء للاستفادة من ميزات توفير ميللي ثانية واحد، وأعطاها المتداولون أسماءً مثل (نينجا والقناص والسكين) وكانت هذه الخوارزميات قادرة على الاقتصاد في استهلاك مبالغ زهيدة جداً من كل عملية تداول، وعلى تكرار هذه العمليات ملايين المرات يومياً. وقلّما كانت تتضح الهوية الحقيقية لمن يشغل تلك الخوارزميات في ظل هرج ومرج أسواق المال. ولا يختلف الوضع الآن عن ذلك؛ لأن تكتيكها الأساسي هو التسلل، أي إخفاء نياتها وأصولها في أثناء استيلائها على نصيب كبير من كل قيمة متداولة. فكانت النتيجة سباق تسلح فأياً كان من يستطيع بناء البرمجية الأسرع، وتقليل زمن استجابة ما يصلهم بسوق المال، وإخفاء هدفه الحقيقي تماماً يمكنه إقامة مصرف.
لقد صار العمل داخل سوق أوراق مالية مسألة تعامل معتم وألياف معتمة، والعتمة تشتد هي الأخرى؛ ذلك أن أغلب المتداولين اليوم يميلون إلى التعامل لا داخل أسواق الأوراق المالية العامة جيدة التنظيم نسبياً، بل داخل ما يطلق عليه اسم (الصناديق غير المكشوفة)، وهي منتديات خاصة التداول السندات المالية والمشتقات والأدوات المالية الأخرى. وقد قدر تقرير هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية في العام 2015 قيمة التداول في الصناديق غير المكشوفة بنحو خُمس التداولات في الأسهم التي جرى تداولها أيضاً في التبادلات العامة وهي نسبة لا تصادفها في أغلب أشكال الأدوات المالية الشائعة الأخرى». تسمح الصناديق غير المكشوفة للمتداولين بنقل كميات هائلة من الأسهم من دون تنبيه السوق الأوسع، وبهذا تحمى تداولاتهم من المفترسين الآخرين. لكنها تظل كذلك أماكن مشبوهة، حيث تتفاقم الصراعات على المصالح، ففي بداية الأمر أعلن عن الصناديق غير المكشوفة باعتبارها أماكن تداول آمنة، وأخذ على مشغليها أنهم دعوا إليها من دون أن يرف لهم جفن المتداولين أنفسهم عالي التردد ممن كان يسعى العملاء إلى تحاشيهم؛ إما لتوفير السيولة المالية بالسوق، وإما من أجل نفعهم الخاص. ويذكر تقرير هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية في العام 2015 قائمة بعديد من هذه الصفقات في إطار ما أطلق عليه اسم «سلسلة محزنة من إساءة التصرف» وفي العام 2016 غُرّم مصرفا «باركليز» و»كريدي سويس» مائة وأربعة وخمسين مليون دولار؛ لأنهما سمحا سراً للمتداولين عاليي التردد - فضلاً على موظفيهم - بالوصول إلى ما يُسمى بصناديقهم الخاصة غير المكشوفة. ولأن الصناديق غير مكشوفة، فمن المستحيل أن نعرف کم خسر عملاؤهم لمصلحة أولئك المفترسين المجهولين، لكن أغلب زبائنهم الكبار كانوا من صناديق المعاشات المكلفة بإدارة خطط تقاعد الناس العاديين. وهكذا، فما ابتلعته الصناديق غير المكشوفة؛ الذي لا يعلمه أعضاؤها، هو مدخرات العمر وضمانة المستقبل وأسباب العيش.
في العاشر من مايو من العام 2010 استهل مؤشر داو جونز الصناعي - وهو مؤشر سوق أوراق مالية يتتبع ثلاثين من كبريات الشركات الخاصة في الولايات المتحدة - تعاملاته بانخفاض عن اليوم السابق واستمر بالانخفاض تدريجياً خلال الساعات القليلة التالية استجابة لأزمة الديون في اليونان. لكن في خلال الساعات الأولى من الظهيرة، حدث شيء شديد الغرابة. فعند الساعة الثانية والدقيقة الثانية والأربعين مساءً بدأ المؤشر يهوي سريعاً، وفي غضون خمس دقائق فقط خسر السوق نحو ستمائة نقطة تساوي مليارات الدولارات وهبط مؤشر السوق عند أدنى مستوى له ألف نقطة أقل من متوسط اليوم السابق وهذا الفرق يساوي عشرة في المائة من قيمته الكلية، وأكبر هبوط في تاريخ السوق يجري خلال يوم واحد. لكن عند الساعة الثالثة وسبع دقائق مساءً - أي في غضون خمس وعشرين دقيقة فقط - استعاد السوق الستمائة نقطة بالكامل ليضحي أكبر وأسرع تحول على الإطلاق تبدل مالكو ملياري سهم تبلغ قيمتها 56 مليار دولار خلال الفوضى التي شهدتها تلك الدقائق الخمس والعشرين لكن الأكثر مدعاة إلى القلق، والأسباب لاتزال غير مفهومة بالكامل، هو أن أغلب الأوامر كانت تنفذ وفق ما وصفته هيئة الأسواق والأوراق المالية بالأسعار غير المنطقية»؛ إذ كانت تنخفض لتبلغ بنساً واحداً، أو تعلو إلى مائة ألف دولار. صار الحادث يعرف باسم الانهيار الخاطف، ولايزال خاضعاً للبحث والنقاش بعد سنوات من وقوعه. اكتشفت الجهات الرقابية التي تفحص التسجيلات الخاصة بالانهيار أن المتداولين عالي التردد فاقموا تذبذبات الأسعار على نحو هائل، وأن أغلب برامج التداول عالي التردد المختلفة الفاعلة في السوق كانت لديها نقاط بيع ضمنية بمعنى أنها كانت مبرمجة لبيع حصتها بالأسهم فوراً عند وصول هذه الأسهم إلى سعر معين، وعند بدء الأسعار في التداعي بادرت حزم من البرامج إلى البيع في الوقت نفسه، ومع تجاوز كل مرحلة أدى هبوط السعر المترتب إلى إطلاق مجموعة من الخوارزميات تبيع الأسهم بصورة تلقائية، مسفرة عن أثر تغذية راجعة. ومن ثم، هبطت الأسعار بوتيرة أسرع من قدرة أي متداول بشري على الاستجابة. قد يستطيع لاعبو السوق المتمرسون الحد من انهيار الأسعار من خلال الدخول في مباراة أطول، أما الآلات فتسارع بالخروج قدر الإمكان حين تصادف غموضاً ما.
صارت (الانهيارات الخاطفة) الآن خاصية عادية للأسواق المعززة لكنها لاتزال غير مفهومة على نحو كافٍ، وكان ثاني أكبر (انهيار خاطف) وهو الذي بلغ 6.9 مليار دولار قد هز بورصة سنغافورة في أكتوبر من العام 2013 ودفع السوق وضع قيود على عدد الأوامر التي يمكن كتفية ذا في الوقت نفسه وجوهرياً، هذه محاولة الإعاقة تكتيكات التشويش التي يتبعها المتداولون عالم التردد.
إن السرعة التي تستطيع أن تستجيب بها الخوارزميات تجعل من إبطالها أمراً شاقاً أيضاً، في الرابعة والنصف من صباح يوم الخامس عشر من يناير من العام 2015، أعلن البنك الوطني السويسري بغتة تخليه عن سقف مفروض على قيمة الفرنك مقابل النورة وأولى المتداولون المؤتمتون تلك الأنباء اهتماماً خاصاً ما جعل سعر الصرف يهبط 40 في المائة في غضون ثلاث دقائق، وأدى إلى خسائر تبلغ مليارات.
وفي أكتوبر من العام 2016 تفاعلت الخوارزميات مع عناوين أخبار سلبية تطلق مفاوضات البريكست Brexit، وأدت إلى انخفاض سعر صرف الجنيه الإسترليني ستة بالمائة مقابل الدولار خلال أقل من دقيقتين، قبل أن يتعافى على الفور تقريباً، يكاد يكون من المستحيل أن تعرف أياً من عناوين الأخبار أو الخوارزميات سبب وقوع الانهيار وعلى رغم أن بنك إنجلترا سارع إلى إلقاء اللوم على المبرمجين البشريين الذين يقفون خلف التداولات المؤتمتة، فإن حدة الذهن هذه لا تفيدنا في فهم الوضع الحقيقي بصورة أفضل، وكان أحد المعلقين قد عقب ممتعضاَ حين شرعت خوارزمية حمقاء في الدفع بأوامر والغاء أوامر أخرى ما سبب التهام نحو أربعة في المائة من إجمالي حركة البيانات الخاصة بالأسهم الأمريكية في أكتوبر من العام 2012، بقوله: (لا يزال دافع الخوارزمية غامضاً).