خالد بن عبدالرحمن الذييب
العزلة، جنة الأدباء، وراحة العلماء، ومآل المبدعين، ونزل المفكرين. يراها بعضهم وحدة واكتئابا، ومن جانب آخر فهي آية جمال، وينبوع معرفة، ومصدر إلهام، وهي اللحظة التي يبحث عنها عشاق الحرف، ويرغبها أصحاب الهمة والشرف، هي كنز لمن يقدرها، هي العز لمن يرعاها. هي نجاح وأحلام صباح، ولحظات كبرياء وعز وأفراح، قد تكون ليلاً وربما نهارا، قد تكون بجانب الصخر أو تحت ظلال الأشجار. يقول عنها كازانتزاكس: «إن أَفلتَ من شراك المجتمع استمتع بالصمت العميق والنعمة»، يتخيلها طه حسين في كتاب على هامش السيرة تتحدث عن نفسها قائلة: «أنا الوحدة التي يفر إليها الإنسان من نفسه وأهله، ومن الأعداء والأصدقاء ومن الخير والشر». العزلة تساعدك على التأمل، تحفزّك للإبداع، تنمّي فيك مَلكَة الخيال، ففي العزلة أنتج أغلب المبدعين إبداعهم، وأنجز أغلب العظماء إنجازاتهم، وأظهر أغلب الفلاسفة أفكارهم. وأنتجوا ما أنتجوا في أجواء رائعة من العزلة.
قيل عن ابن خلدون إنه مكث ستة أشهر لإنتاج تحفته الإبداعية «مقدمة ابن خلدون» في عزلة تامة في إحدى مغارات تونس الخضراء، وزادت بعض الروايات أكثر من ستة أشهر، وفي روايات أخرى ثلاثة، أما دانتي فقد أمضى سنوات في تأليف منتجه الأدبي «الكوميديا الإلهية» وكان القاسم المشترك بين الاثنين هو العزلة.
المبدع الناجح هو الذي يستطيع أن يعيش العزلة الشعورية أكثر من غيرها، وليس العزلة الذاتية، فيكتب إبداعه في مقهى عام، جسده محاط بالعشرات، بينما عقله وروحه في عزلة تامة عما يحيط به مندمجاً مع شخصياته وأبطال رواياته وفكرته في لحظة عزلة أقرب إلى جنون صامت مكتوب على الورق.
في العزلة لا تتكلم بأحد، ولا تتذمر من أحد، ولا تأخذ مال أحد، ولا تشتم أحدا، صامتاً مستغرقاً في منجزك، فلا يمكن لمنتج إبداعي إنساني أن ينجح ويحقق الأثر العميق إلا من خلال الاستغراق الذهني والتركيز العقلي في هذا الأمر، والعزلة التامة عن كل ما يحيط بك، لدرجة أن تكون كل أفكارك وقراراتك مركزة في هذا المنجز وأي قرار آخر في أمر غير منجزك يكون غريباً بل ومضحكاً ليس لأنك غبي ساذج، ولكن لأن تركيزك فيما يهمك سحب جزءا كبيرا من تركيزك فيما لا يهمك.
فالإبداع بالإضافة إلى الموهبة فهو يحتاج إلى جهد ووقت وصبر، وينسب لأديسون قوله: «إن النجاح 1 % فكر، و99 % جهد وعمل».
أخيراً...
الموهبة والهواية والمحاولة إن لم يضرب حاصل جمعها مع العزلة، فقد نقص من الإبداع الكثير.
ما بعد أخيرا ً...
الإبداع = (موهبة + هواية + محاولات) x عزلة.