الحياة لا تسير وفق أهوائنا ولا تعطينا كل ما نحب.. وكما يقال لكل شيء نهايه إلا أن النهايات ليست كلها إلى زوال، توجد نهايات منقوشة في الزمن وذاكرة التاريخ، فالحياة متاهة لا تخلو من الألم والغصة، كبدٌ دائماً مفاجآت ومُنغصات وإن طال أنسها لابد من كدر ووقفةٍ مربكةٍ تعيد ترتيب الأوراق حيناً وحيناً آخر تزيد بعثرتها.
تفاجأنا منذ فترة عبر منصات التواصل بخبر اعتزال فنان العرب محمد عبده ولأنه شخصية استثنائية، وحالة فنية لن تتكرر، انتشرت هذه التغريدات ووجدت رواجاً واسعاً من عاشقيه، خاصة في الفترة التي تعيشها السعودية الجديدة من انفتاح على العالم، والوهج الفني والحضور الكبير الذي حققه فنان العرب في مشاركاته المستمرة في الحفلات والفعاليات والمناسبات الفنية، وكان لزاماً أن نستدرك هل هذا التلميح المتداول إعلان مموه لمعالجتنا نفسياً من الصدمة التالية عندما خرج فنان العرب وأعلن مرضه وإصابته بمرض السرطان هل كانت وسيلة لتهيئة أرواحنا المحبة لكوكب أضاء العالم سنوات وأذن الوقت بتوقفه؟ هل هو مجرد كابوس مزعج سنفيق منه ونستعيد روائعه من جديد على المسرح بوقوفه المبهر أمام جمهوره الذي يعد استثنائياً أيضاً لأنه يمتلك ذائقة تفوق الخيال؟.
محمد عبده ليس فناناً للعرب فحسب بل هو من استطاع تشكيل الذائقة الفنية السعودية ليكون رمزاً لها، محمد عبده مساحة فنية مترامية الأطراف، متنوعة التضاريس، متعددة المناخات، مختلفة الفصول، مساحتها الإبهار، وحدودها المستحيل، شيدها بحروف الأمراء ورسم خرائطها بأنامل العظماء يحضر في الوقت وينتهي بالزمن.
فيني بداية وقت.. ونهاية ازمان
اشتاق باكر واعطي امسي حنيني
واسقي قلوب الناس عشقٍ وضميان
واهدي حيارى الدرب.. واحتار ويني..
واحاوم طيور السما حوم نشوان
واسيل الوديان دمعٍ حزيني..
(أبو نورا) استطاع أن يربي في داخلنا طفلاً لا يشيب، وعاشقاً متيماً هل بالغت؟ لا أعلم، لكن كل ما أعلمه أن محمد عبده صديق الليل، ورفيق السمرات الدافئة والحانية، مشعل الأشجان، ومستنهض الجوارح، معه نجد أنفسنا، ونعرف ذواتنا، كم أغنية سافرت بنا إليه، وكم من عذوبة ورقة سكنتنا لأننا بين أغانيه، استطاع العزف على آهاتنا، عشنا مع أغانيه الحب والعتاب والفراق والمواعيد.
هل اعتزلت محمد عبده؟ وإن اعتزلت فلن نعتزلك..!!
لأنك جزء من تشكيلنا الداخلي، وممارستنا الحسنة، وسلوكياتنا النبيلة.. لن نعتزلك لأنك من (ترفض المسافة والسور والباب والحارس).. أنت من يرفض (الحصار) والانتظار و(بكره) ونحن نرفض غيابك.
دامه معي كل القرايب فانا حي
بالروح اضمه يوم قلبي ضنينه
له في ضميري من لهيب الوله كي
روحي معه عذب المناجى رهينه
ياصاحبي لا تنشد الروح عن شي
انا حبيبي نور كل المدينة
** **
- فاطمة عبدالرحمن