أجرى الحوار - عوض مانع القحطاني/ تصوير - عبدالله المسعود:
العصاميون هم بشر مثل غيرهم، ولكن عندما يتميزون في العديد من الصفات والسمات، فإنهم قادرون على تحديد مستقبلهم وعطاءاتهم من خلال إبداعاتهم وامتلاكهم هذه القدرات العالية من الطموحات والجدية وعدم اليأس والقنوط..
هناك من يصنعون مستقبلهم بعزيمتهم وطموحهم لأن الإنسان الطموح لا يرضى بغير النجاح والتميز في جميع مناحي الحياة..
لقاء (الجزيرة) مع معالي الأستاذ الدكتور سعود بن سعيد المتحمي وزير الدولة عضو مجلس الوزراء والمشرف على مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع، وقد تحدث عن كثـير من القضايا، وعن مسيرته العلمية والعملية والتحديات التي صنعت هذه التجربة.. فإلى الحوار:
التحديات صنعتني!
* مسيرة حافلة وبدايات مبكرة.. ليتكم تحدثونا عن طفولتكم وما علق بالذاكرة منها؟
• المسيرة لأي إنسان في مرحلة من حياته، يمر عليه حوادث إيجابية وسلبية وتسير ولا يعرف مآلاتها.. وعندما يتقدم العمر بالإنسان ويراجع هذه الأحداث ويرى تلك النتائج تكشفت له بعض الأمور.. وكلما زادت التحديات في حياتك كلما أثرت إيجاباً في صناعة الشخصية.
في البدايات كان والدي -رحمة الله عليه- يعمل مدير مدرسة في قرية (طبب) في ذلك الوقت بمنطقة عسير.. وكان صاحب علم.. وكان يذهب للحجاز لطلب العلم ويعود لتعليمه الناس والطلاب في مدارسهم، وحين يذهب إلى مكة والطائف وجدة والمدينة، كان يحضر معه أنواع الفاكهة التي تباع عند الباعة في الأسواق في تلك المناطق لأهالي قريتنا، وأول فاكهة أحضرها ولم نكن نعرفها -آنذاك- هي الموز والجح؛ حيث كانت غريبة علينا، ولم تكن في ذلك الوقت موجودة في أسواق المنطقة.
شاءت الأقدار بعد وفاة والدي أن تصبح حياتنا معاناة وفقراً؛ لأن عمود البيت ذهب إلى ربه.. ولذلك أقول «اليتم أقسى من الفقر على الإنسان، والفقير قد يأتيه رزقه في أي لحظة أو يجده في أي مكان.. ولكن اليتم صعب على الإنسان، أن يفقد أباه وأمه، خاصة في مثل هذا العمر.
درست الابتدائية في قريتي التي تبعد عن مدينة أبها بما يقارب من 30 كيلومتراً في (طبب)، ثم بعد ذلك اتجهت إلى أبها لدراسة المتوسطة والثانوية، كنت (أعزب) وأسكن في إحدى الدكاكين التي يسكنها العمال، لأنه بعد وفاة والدي أحوالنا تغيرت.. وليس عندي القدرة أن أستأجر بيتاً أو شقة.. وهذه مرحلة قاسية. كان تقاعد والدي ما يقارب من 200 ريال، وكان هذا المبلغ يوزع على الورثة وزوجات والدي، وكان عمي عبدالرحمن -رحمه الله- هو الوصي علينا، وكنت أذهب إليه من أبها إلى قريتنا لكي آخذ منه نصيبي من الإرث.
كنت أكابد الحياة، وأبحث عن رزقي، فقد كنت أبيع للطلاب ما يحتاجون إليه، وما زلت أتذكر بيعي لبسكويت أبوميزان، وكنت أعلم الناس قيادة الدباب، واشتريت سيارة لأكد عليها لتغنيني عن الناس، وعملت كذلك في نقل الطالبات!
لكن رحمة الله بالإنسان أكبر، فرغم أن وفاة والدي أثرت علي.. لكنها نفعتني في مسيرة حياتي، وصنعت مـني ذلك الإنسان الذي يحب العيش ببساطة مع الآخرين، ولذلك أصبحت أحب التخلي عن مظاهر البذخ والطبقية، فلا أمانع في كثير من الأحيان في السفر في الدرجة السياحية، بل أفضلها، كما لا أمانع في الأكل في المطاعم الشعبية، فأنا أشعر بأن الحياة تقربني إلى الناس أكثر.
* الدكتور المتخصص في الرياضيات ثم في الذكاء الاصطناعي.. كيف بدأ حياته مع العلم؟
• بعد أن أنهيت التعليم العام، التحقت بكلية التربية جامعة الملك سعود في أبها، قسم رياضيات، وتخرجت منها بتقدير امتياز، وصدر قراري على وظيفة معلم، وكانت فرحتي كبيرة، باعتبار حصولي على المركز الأول على الدفعة، حيث طرح عليَّ أحد الزملاء فكرة.. لماذا لا تواصل دراستك في الخارج على حساب الجامعة؟ وعند مراجعتي للخدمة المدنية، قالوا صدر قرار تعيينك على وظيفة معلم، وإذا لم تباشر فسيكون هناك عقاب لك، ذهبت إلى وزارة المعارف لكي أبلغهم بأنه صدر لي ترشيح من الجامعة بالابتعاث للدراسة في الخارج، ولذلك لا بد من إخلاء طرفي، وبالفعل راجعت حتى حصلت على إخلاء طرف من وزارة المعارف في ذلك الوقت. الخيار الآخر أمامي هو مستشفى مشهور في الجنوب اسمه (وتكر) يبتعثني للخارج في تخصص حاسب، حيث حصلت على قبول في إحدى الجامعات الأمريكية، وبالفعل ذهبت لأمريكا للحصول على درجة الماجستير، وفضلت الحاسب الآلي، وعندما اكتشفت جامعة الملك سعود أنني غيّرت التخصص الذي ابتعثت من أجله، قلت لهم الحاسب قريب من الرياضيات، وقد ساعدتني الجامعة في إكمال تعليمي في علوم الحاسب الآلي ذكاء صناعي..
عندما كنت أدرس في أمريكا عانيت بعض المصاعب بسبب أنني أريد أن يتعلم أبنائي في مدراس عربية.. فقد فضلت الاكتفاء بمرحلة الماجستير، واعتذرت عن مواصلة الدكتوراه.. فرفضت الجامعة، وقالت لا بد من إكمال مشروع الدكتوراه، وقضية تدريس الأبناء محلولة، نحول بعثتك إلى بريطانيا بدلاً من أمريكا، لوجود أكاديميات متوفرة، وبالفعل تمت الموافقة على مواصلة الدكتوراه في لندن.. كانت تجربة الدراسة في لندن قاسية.. فالمبالغ التي وفرتها في أمريكا طيلة دراستي فيها، أكلتها لندن في سنة واحدة..
قصص الدراسة كثيرة ومنها حين سكنت أحد المنازل في لندن، حيث إن البريطانيين شديدون جداً في مسألة الرسوم والضرائب، وتمت محاكمتي بسبب أنني لم أحصل على رخصة استخدام التلفزيون داخل بيتي، وطلب مني إخطار محامٍ، ونصحتني المحامية بأن أعترف بالذنب، وحكموا عليَّ بدفع 140 جنيهاً، فقلت أنا طالب لم أكن أعرف أن التلفزيون الموجود في البيت يؤخذ عليه رخصة، وبالفعل درسوا حالتي، ووضعي الأسري من قبل لجنة، وتم تخفيض المبلغ إلى 30 جنيهاً.
عندما تخرجت من لندن، وبحكم تخصصي الذي يعد في ذلك الوقت نادراً، كانت العروض التي عرضت علي كثيرة ومن عدة جهات.. وحصل صراع على تعييني، وبالفعل صدر قراري من مجلس الجامعة بترشيحي على كلية علوم الحاسب، وقد باشرت العمل عضو هيئة تدريس في جامعة الملك سعود.. اقترحت على الجامعة إضافة الذكاء الصناعي، وعندما علم بعض الناس داخل الجامعة حاربوني، وأطلقوا علي عبارة (زنديق)، ولكن عندما أصبحت رئيس قسم علوم الحاسب. وعدلت اسمه من الذكاء الصناعي إلى نظم خبير، وبعدها تم تحويلها فيما بعد إلى ذكاء اصطناعي.
تركت الجامعة وتحولت للعمل بالقطاع الخاص..
بعد فترة ذهبت لحضور أحد المعارض، وكان عن نظم الحاسب، تقابلت مع الرئيس التنفيذي لشركة يوينق، فعرض علي العمل نائباً للرئيس لشؤون العمليات في الشركة، وبالفعل تقدمت للجامعة بطلب الإعارة للعمل مع هذه الشركة لمدة 4 سنوات، وقدموا لي عرضاً بـ10 أضعاف راتبي في الجامعة، وبعد مدة لم توافق الجامعة على التجديد لي، فطلبت منهم الاستقالة من الجامعة.. وأنا أعمل في تلك الشركة بُلّغت بترشيحي لمجلس الشورى، وبالفعل أصبحت عضواً في مجلس الشورى.. وبعد أربع سنوات اعتذرت من رئيس المجلس عن التجديد لي في مجلس الشوري، لأنه جاءني عرض مغرٍ من إحدى الشركات المهمة والكبيرة الأجنبية، وكانوا يؤسسون لهم مكتباً كبيراً خارج المملكة، وقد كتب رئيس مجلس الشورى أسماء الذين لا يرغبون في تجديد عقودهم لظروفهم للأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض في ذلك الحين.. وبعد تجديد الدورة الثانية صدر أمر ملكي، وظهر اسمي مع المجددين لهم، وقد تشرفت بالذهاب إلى الملك سلمان للسلام عليه، وشرحت له موقفي مع الشركة.. فقال لي مكانك في خدمة الوطن، وخرجت من عنده -حفظه الله- واعتذرت من الشركة.
* ما العمل الذي تفتخر وتعتز بأنك أنجزته؟
• حصلنا بحضورنا في أمريكا وبمشاركة 160 دولة، على أفضل بحث في منهجية إعداد الباحث، ولنا الشرف الكبير أن نصعد على منصات التتويج في حفل دولي، وأن نفوز بهذا البحث العلمي في مشروع المواهب العلمية، وفوز المملكة بهذا الإنجاز يعادل تحقيق بطولة كأس العالم، بالإضافة إلى أن موهبة حققت العديد من الإنجازات والإبداع، حيث توج العديد من طلابنا وطالباتنا بالجوائز الدولية.
* كيف تم اختياركم لمؤسسة الملك عبدالعزيز لرعاية الموهبة؟
• كان وضع هذه المؤسسة غير مستقر، وتم تكليفي عام 2017م حتى نهاية 2020م، لبناء حوكمة جديدة.. وقد تم إعادة حوكمتها ففي عام 2022م، ولو سألتني عن أقرب الإنجازات إلى قلبي خلال عملي 12 سنة في الوزارة، لاخترت وقوفي في هذا الحقل الدولي الذي رفع راس الوطن.
* كيف كانت تجربتكم مع الموهبة والإبداع؟
• أود أن أوكد أن أهم خطوة هي منح الإنسان الثقة.. دعني أروي لك قصة: إحدى الطالبات الأجنبيات، وفي حفل التكريم الذي حققنا فيه ذلك الإنجاز، سألتني: كيف أكون وزيرة مثلك؟ فقلت لها هذا سؤال كبير، وطلبت من الطلاب الاستماع إليها، وسألتها ما تخصصك؟.. قالت: (كيمياء).
وقد أعطيتها بعض النصائح، وبعد فترة علمت أنها حصلت على الميدالية الفضية في الكيمياء، وقد هنأتها على ذلك، وقلت لها لو حصلت على الميدالية الذهبية في الكيمياء ستكونين وزيرة العالم.. ستكونين أفضل مني.. فالدعم والتشجيع والثقة مهمة للموهوبين.
* هل هناك دراسات عن الموهبة والمبدعين في المملكة؟
• نعم هناك أبحاث ودراسات لاكتشاف المواهب في المملكة، والدولة -رعاها الله- تحرص وتعمل وتدعم كل المواهب والمبدعين، وكل في مجال موهبته، وقد اكتشفنا مواهب عند طلاب المدارس كانت كامنة.. مواهب مطمورة للأسف.. سأخبرك بمثال وهو أحد أبناء عسير، اسمه أحمد ماطر؛ طبيب ناجح ومتميز، ترك الطب ومارس التخصص الذي يهواه.. وهو التصوير الفوتوغرافي، وتحول إلى شخصية عالمية يدعى إلى المناسبات العالمية والمسابقات في باريس ولندن وأمريكا، وفي داخل المملكة، ونجح نجاحاً باهراً، ومع هذا نسميه شغف الموهبة، والشغف هذا الذي ينقلك لآفاق أرحب.
* ما أثر إنشاء هذه المؤسسة؛ مؤسسة الملك عبدالعزيز على الأجيال القادمة من خلال تجربتكم؟
• أؤكد لك أن مشاريع موهبة أحدثت حراكاً غير طبيعي، وفي كشفنا آلاف الموهوبين والموهوبات والمبدعين والمبدعات سوف تري أثرها على الطلاب في المملكة، وقد أجرينا دارسة مع طلاب المدارس.. وهناك من كان ينظر إليه حتى من قبل والديه، بأنه مشاغب، ثم تغيرت نظرتهم له بعد جهود موهبة.. وبعض الموهوبين لديهم توحد. خذ على سبيل المثال العالمة اليمنية المصابة بالتوحد، والتي تم تجنيسها من قبل المملكة، والتي تدعي مناهل ثابت، كانت منبوذة لأن عندها توحد، ولكن عندما انطلقت في موهبتها أصبحت عالمة، وبلغت شهرتها وإنجازاتها الآفاق.
* كيف تنظر إلى رؤية المملكة 2030م؟
• الرؤية بنيت على خطط واستراتيجيات، جعلت شباب الوطن اليوم يفتخرون بأنهم يعملون بتميز وتفوق.. الرؤية غيّرت المفاهيم عند من كانوا يرفضون التوظيف في بعض المهن، وأصبحنا اليوم نمارس كل الأعمال المهنية بامتياز، ليست الرؤية مجرد حبر على ورق، بل واقع نعيشه ونشاهده.. زرعت الرؤية في شباب الوطن الروح الوطنية والطموح.
* كيف ترى قيمة المملكة الاقتصادية ووجودها في مجموعة الـ20؟
• عضوية المملكة في كثير من المؤسسات الدولية تعكس قوة بلادنا في الأسرة الدولية.. وهي شاهد على مكانة المملكة.. وتنظيم ومشاركة المملكة في قمة العشرين في الرياض، أبرزت خبراتها وإمكاناتها، كما أن مواقف المملكة في كثير من القضايا التي يشهدها العالم تعكس دورها الإنساني تجاه المحتاجين والمتضررين في كل مكان.
* كيف تنظر إلى مستقبل السياحة في المملكة؟
• المملكة لديها مقومات هائلة وثروة عظيمة من الآثار والحضارات والطبيعة والأماكن المقدسة، فقد أنجزنا الكثير في بناء الفنادق وإعداد الأماكن السياحية والتراثية، ونحن في البداية، ونعمل حالياً على تطوير السياحة القادمة، أنا متفائل بأنه مع نهاية 2030م، ستجد اختلافاً في المرافق كافة. كما أن المؤشرات والإحصاءات الأخيرة تكشف ارتفاع عدد السياح الأجانب، وأنا متفائل بمستقبل السياحة في مناطق المملكة كافة، وخاصة عسير.
برنامجي اليومي بعد التقاعد
أعطيت أسرتي بعض الشيء مما فقدوه عندما كنت على رأس العمل.. والأصدقاء.. وبرنامجي مقسم ما بين الأسرة والأقارب والأصدقاء وممارسة ورياضة.. وقد حولت غرفة نومي إلى أجهزة حاسب آلي، أشارك العالم برأيي في الذكاء الاصطناعي، وتقديم عدد من إنجازات المملكة في الذكاء الصناعي والموهوبين، ولذلك 24 ساعة لا تكفيني، وأنا ألقي محاضرات في هذا التخصص، وأستفيد مما يقدمه العالم من ابتكارات.