علي الخزيم
* مررت مؤخراً على مَحل للخضار والفاكهة داخل الحَي أتعامل معه لِمَا لمسته من صدق صاحبه المواطن وأمانته واختياره للجيّد من الأصناف، رجل دمث الخلق نقي بتعامله، متسامح مع لَجَاجة بعض الزبائن، قال لي وهو مبتسم: أحضرت لك بطيخاً كالعسل (حُط في بطنك بطيخه صيفي)! خرجت من عنده وأنا أفكر بمعنى المَثَل؛ ولماذا الصيفي تحديداً؟
* وقبل أن أُعرِّج على معنى المثل أُشير إلى ما جاء بالعِقد الفَريد -لابن عبد ربه- وبفصل بعنوان (كتاب الجَوهرة في أمثال العرب) حيث وصَف الأمثال العربية بأنها: (وَشْيُ الكلام، وجوهر اللفظ، وحَلْي المعاني، تَخَيَّرتها العرب وتحَدَّثت بها بكل زمان وعلى كل لسان، فهي أبقى من الشِّعر وأشرف من الخطابة، لم يَسْر شيءٌ مَسِيرها حتى قيل: أسيَر مِن مَثَل)!
* وتتبعت مصدر وأصل المثل آنف الذكر فوجدت أنه بالغالب مصري النشأة وإن تحدثت به شعوب أخرى؛ وهو يقال لطمأنة من يطلب إنجاز عمل أو تحقيق مَقصد من شخص آخر؛ فيرد عليه: سوف أفعل (وحط في بطنك بطيخة صيفي)، أي اطمئن ولا تقلق، وقد يكون بحالات أخرى بمعنى التّسويف وكأن القائل يريد أن يصرف عنه صاحب الطلب ولن يَفِي بوعده، أو بلهجة دارجة الآن (يسلّك).
* ولكن لماذا اختاروا البطيخ الصَّيفي، وهل البطيخ يكون بغير الصيف؟ قالوا: لأن البطيخ عند أهل الريف والقُرى يُشقُّ حتى يتبخر جزء من مائه ويعمل الترشيح على تبريده كما يفعل ماء الزير؛ وعند تناوله يكون مُبَرداً وملطفاً لكافة أجزاء الجسم، وبه ترتاح المشاعر وتطيب النفس، ولهذا كان الاختيار للتأكيد على حُسن النِّيَّات عند طلب تنفيذ أي عمل، فهو مَثَل نابع من بيئته؛ وناسب استخدامه ليَفِي بغرض يَفهَمه أهل ذاك المحيط، ثم انتشر.
* والبطيخ مُصنف كفاكهة وله تسميات تختلف من بلد لبلد؛ فمثلاً هنا بالمملكة وحيث تباعد المناطق واتساع رقعتها وتباين اللهجات فتتنوع التسمية كبطيخ وحبحب وجِح وغيرها، وسمعتهم في تونس يسمونه الدُّلاع، وبالكويت الرِّقي ويقال إنها نسبة إلى مدينة الرّقة العراقية، حيث كان يُجلب منها إلى هناك، وغيرها من التسميات، وفي كل الأحوال يبقى للبطيخ طعمه ونكهته المميزة المحببة، ولن يكون إلَّا صيفياً وإن أكلناه شتاء!
* وإني لأعجب كيف يُميّز البعض البطيخة الناضجة فتكون عند فتحها حمراء قانِية وحلوة عسلية! والعامل لدى محل الفاكهة الوارد ذكره أعلاه يُتقن ذلك فقلما أخطأ حدسه واختياره، يقول بعض المتشائمين: لتعاستي فحظِّي دائماً أسود ما عدا في البطيخ فهو أبيض! غير أن الأمور تغيرت حالياً فظهر البطيخ الأزرق والأخضر والمنقاوي وغيرها؛ نظراً لتقدم التقنية بالهندسة الزراعية وتطوير وسائل الاستزراع والتوأمة بين أغصان الفاكهة لتثمر ثماراً بلونٍ وطعمٍ مزدوج.
* وخلاصة القول: فإن أمثال العرب قديمها وحديثها هي نمط راقٍ من أشكال وفنون التخاطب اللغوي بين الشعوب العربية؛ ولها مدلولاتها البلاغية وعمقها الحضاري؛ كما أنها تُفصح عن وجوه نَيِّرة من الوعي المشترك بين هذه الشعوب وتصوراتهم الواقعية حول العلاقات الإنسانية.