د.محمد بن عبدالرحمن البشر
أبو حية رجل من العرب، اشتهر بالكذب والمبالغة، ومما قاله: رأيت ظبياً فرميته، فراغ عن سهمي، فعارضه السهم، فراغ فراوغه السهم حتى صرعه.
رحمك الله يا أبا حية، أي سهم هذا يروغ كما يروغ الظبي، ويتبعه حتى يطرحه، وهذا يصعب قبوله مطلقاً في زمانه، لكن لو كان أبو حية بين ظهرانينا، لرأى بأم عينه أن هناك صواريخ تتابع الهدف وكلما راغ راغت معه، وكلما أسرع أسرعت، حتى تطرحه أرضاً، كما كذبت في زمانك حول ظبيك وسهمك، وربما تكون كذبتك حقيقة في زماننا هذا مع التطور الهائل في التقنية.
وقال أبوحية، أيضاً: رميت ظبية، فلما انطلق السهم، ذكرتني الظبية بحبيبتي، فانطلقت خلف السهم كالبرق، فلحقت به، وأمسكت بريشته، وأنقذت تلك الظبية الشبيهة بحبيبتي، يالها من كذبة، جمع فيها مبالغة في سرعته، ومدى حبه لحبيبته، وجمالها الشبيه بالظبي، لكنها كذبة صعبة البلع، وربما فيما يبدو أنه اعتاد على مثل ذلك، دون خجل، وأيضاً لو عاش في زماننا لربما أمكنه اللحاق بالسهم، بإطلاق رصاصة عليه فقد تكون أسرع من سهمه العتيد، وبها ينقذ شبيه حبيبته، أو تسقط عليه إحدى الطائرات قنبلة صغيرة، كما هي تسقط قنابل هائلة التدمير على رؤوس البشر، فتقتل الآلاف، وتهدم البيوت، وتساويها بالأرض، وتدمر مباني كاملة من عدة طوابق. وعندما تحضر المصالح، تنتفي كل المعايير الأخلاقية عند بعض الأفراد أو الجماعات أو الدول.
وصف أعرابي امرأة، فقيل له: ما بلغ من شدة حبك لها، فقال: إني لأذكرها وبيني وبينها عقبة الطائف، فأجد من ذكرها رائحة المسك.
لم تعد عقبة الطائف اليوم كسابقتها، فقد مهدت الطرق، والحمد لله، وتم توسيعها، وتقاربت المباني حتى كادت أن تطل على الجهة الأخرى، مع أمن وأمان، وأرزاق تستحق الشكر للباري عز وجل، ثم لولاة الأمر، ونعود لصاحبنا لنقول إن مبالغته قد تكون حقيقة، فإن المستهام الذي قد شمّ رائحة المسك في يوم من الأيام وحبيبته قريبة منه، قد يتخيل إليه حين يذكرها أنها بلحمها وشحمها ورائحة مسكها ماثلة أمامه، فيمتع خياله بصورة وهمية لمن يحب، ورائحة زكية لمن بها صب، فيأنس بالوهم المريح، وهذا من الناحية النفسية علاج ناجع، ودواء نافع، فالاستمتاع بالوهم ضرب من ضروب إشباع النفس بما يطيب لها، وهذا لا يتوقف عند الحب، وحسب بل يمكن الاستمتاع به بتخيل أرزاق أخرى مثل صلاح مال أو حال، أو استقامة وسلامة، وغيرها من صنوف الأماني.
وتقول العرب: أكذب من سالئة، والسالئة هي التي تعالج السمن وتذيبه وتصلحه، وهي كثيراً ما تقول احترق، أو فسد، خشية العين، وموضع العين قد توسع الناس فيه، وكثيراً ما يردون ما أصابهم من مكروه إليه، وكأن الحوادث في جلها لا تقع إلا بسبب العين، وهذا وهم توارثه البعض من الناس، وجعلوه أمام ناظريهم في كل ما يقع من صروف الدهر ونوائبه، وأحياناً يكون سبباً في قطيعة بين الأقارب أو المعارف أو الجيران، وهذا لا يتفق مع ديننا الحنيف الذي يأمر بالتوكل على الله عز وجل، والبر والمحبة، والتسامح وترك الشقاق.