سراب الصبيح
على الرغم من أن الكتابة هذه الفترة أثقل على نفسي من حمل جبل أحد على كتفيّ، إلا أنني اضطررت إلى كتابة هذا المقال في هذا التوقيت؛ حيث إن إصدار المجلة الثقافية يكون أسبوعياً في يوم الجمعة، وحين نظرت إلى التقويم باحثة عن يوم ميلادي هذا العام «17 مايو» وجدته يوم الجمعة، فاخترت كتابة هذا المقال حتى إذا ما نُشر في إصدارها الذي بيوم ميلادي -إن شاء الله- يكون هدية مني إلي.
وإني في هذا المقال أنوي مكاشفة نفسي، لا سيرة تاريخي، وأجدني -والحالة هذه- سأخلع عباءتي التي اكتسيتها في هذا الجانب؛ إذ إني جلست مع الدكتورة سميرة بلسود في أكتوبر من عام 2020 وقالت لي: «مادام الإنسان بصحة وتحت سقف إذن هو بخير»، من حينها قلب الله نظرتي للحياة رأساً على عقب، إذ كنت سابقاً أبدأ حديثي عن الجرح النفسي بحمد الله على النعم، ومن ثم أذكر أن حديثي عن هذا الجرح ليس كفراً بالنعم، لكنه حيز في النفس أحتاج للحديث عنه، إلا أني بعد قول سميرة ما عدت أستطيع أن أصل إلى مكانه بنفسي، حيث إن الله أراني الصحة والسقف في عمق قلبي، ليس كلاماً نظرياً فحسب. ولما جئت أكتب هذا المقال أحببت أن أكاشف نفسي به أكثر مما أسرد تاريخي؛ حيث إني مولعة بتشعبات النفس البشرية، وأبحث عنها في السينما والأعمال الأدبية، وكنت في هذا المقال مادة النفس البشرية؛ فعوداً على ذي بدء أجدني أعود إلى المكاشفة النفسانية.
إنني ليبكيني طير يحط على طرف الغصن ثم يطير، لست أدري لِمَ نفسيتي هشة هكذا، ثم إني لا أدري أكانت هشاشة هذه أم رهافة! لكني أدري أن نفسيتي هكذا؛ ربما لأجل هذا السبب أول ما أبحث عنه في أي مكان أدخله هو النافذة، إذ إني لا أستطيع البتة أحضر في مكان بالنهار ليس به نافذة يدخلها منها ضوء الشمس؛ ولذلك صممت مملكتيّ: حجرتي ومحرابي بجدار زجاجي، ربما لأني أبحث عن الطير، لازلت عمراً أطوف حول نفسي باحثة عن جواب سبب حبي للحمَام -لا سيما الأبيض منه- كما يطوف هو في جوف السماء، ولمّا أجد الإجابة بعد. أشعر أنه يعرفني، بالأخص حين أتأمله من نافذتي وفي نفسي حديث، فيبقى على سكناته حتى أفرغ من تأملي إياه ثم يطير؛ لعلي مما أجد به الهدوء البعيد عن ضجيج الزحام. الهدوء.. الهدوء فصل آخر من فصول العمر السرابي، بل هو كل الفصول.
ما أعرفه أني هادئة، تكاد من فرط هدوئي تنام الدنيا بطرف عينيّ، غير أني لا أدري ما إن كان هذا الهدوء تعباً أم لا، أم لعله زهد! أم لعله كان تعباً فصار زهداً! غير أني حين أتذكر تاريخي، أتذكر أن الناس في عنفوان مراهقتي، مع كل ما تحمله تلك المرحلة العمرية في الإنسان، كانوا أول ما يصفوني بالهدوء، وحين وصلت لعمري هذا والتفت إلى الخلف، عجبت؛ ما الذي وجدوه من الهدوء في فيض حيويتي النشطة في ذلك العمر؟! فقلت لعله ليس تعباً، لعله هدوء في ذاته، ولازلت أسأل: إن لم يكن تعباً فما أسبابه؟ وكلما كبرت كلما ازداد هذا الهدوء حتى أكاد أصير سراباً لا تراني!
لم أحب يوماُ الظهور، ولم أركض تنافساً عليه، وإني وأيم الله لأترك الجمل بما حمل إذا ما كثر الواردون عليه، دائماً ما كنت أبحث عن ركن قصي، في الحياة المادية في الأماكن التي أدخلها، وفي الحياة المعنوية بداخلي، أبحث عن ركن قصي أربو فيه بهدوئي ويربو بي، إني أركض برجلي إلى مغتسل بارد من الهدوء، بعيد كل البعد، بل بعيد بكل المنافي عن اكتظاظ الزحام، ولست وأنا بتلك الصومعة الهادئة إلا مع خيالي، وما أزحم الضجيج في خيالي، إني لم أترك شخصية تاريخية إلا حدثتها، ولا حقبة زمنية إلى وردتها، ولا مكان في المشارق والمغارب ولا أبعد من ذلك ولا أقرب إلا وطأته بقدميّ، ومن فرط خيالي، أرتب البنايات فيه والأزقة والأزياء بل والملامح والأصوات حسب الحقبة التي ذهبت إليها، وأكمل الخيال يوماً فالذي يليه على أحداث متعاقبات لا تصحيح فيها، كأحداث واقع أحدكم. الخيال.. الخيال فصل من فصول العمر السرابي، وإني حِرت أهو الابن الأكبر للهدوء أم هو أب الهدوء!
لست أدري إن كان خيالي هروباً من الواقع، إلا أن كل ما أعرفه أنْ لا سبيل لمصافحته؛ لأني في خيالي أسافر إلى الأزمنة والشخصيات التاريخية التي سبقتني بآلاف السنين، وحيث لا أستطيع إحضارها في الواقع وجدتني مع الأيام أبني الخيال في صومعة هدوئي، من غير خطة مدروسة مني، لكني هكذا وجدتني. تخيلت حين كنت في المرحلة الثانوية أن أكون دكتورة في بلاغة اللسان العربي، وبما فضل من الله أوصلني الآن إلى منتصف الدكتوراه، أقول هذا لأقول ليس الخيال سيئاً إن تخيلت ما يمكن تسديده -بإذن الله- في واقعي؛ لكن خيالي الذي أعيش به ويعيش بي يمكنني -بفضل الله- من الطير بأجنحة تشبه أجنحة الحمامة البيضاء التي أحب.
أراقب الأيام تمضي من عمري، وكثير من أحوالي يتبدل، إلا الهدوء، وكلما كبرت كلما كبر بي، يفرض الهدوء نفسه عليّ في مشيي البطيء، وفي الصمت الذي أقف عليه بين كلمة وأخرى حتى تمام الجملة، وحتى في رمشة عينيّ يكاد يمر التاريخ بين إغلاقهما وانفتاحهما. وحين قلت إن الهدوء كان بارزاً في حيوية مراهقتي؛ فهذا ما دفعني إلى اليقين أنه متجذر في أصولي، وليس نتيجة لصروف الأيام، لكن ما يقنني منه رأي العين أيضاً: أن صروف الحياة عصفت بي من كل اتجاه حتى كبر هذا الهدوء فامتد من الجذور إلى الفروع، ومن الأعماق إلى الخارج. نعم، إذا ما وقعت في مظلمة فإني أشمر عن ساعديّ متوكلة على الله في القتال، وأشعر حينها أني لبست ثوباً ليس ثوبي، وفور ما تنتهي العاصفة في كل مرة، -الحمد لله- أعود إلى صومعة الهدوء. الأمر يشبه حين تسحبني إحدى أخواتي للخروج معها إلى أوسط زحام المدينة، أتأمل الناس وأعجب: كيف ينغمسون في سرعة الحركة التي هم عليها؟ أراهم على منضدة من بعيد ولا أسمع حديثهم، لكني أرى في حركة جسدهم السرعة المعنوية في أفكارهم لا أجسادهم فحسب. وأعجب! لقد خرجت للتو من صومعة هدوئي ووجدتني في لحظة في زحام طاحن لا يشبهني!
أعود.. أعود إلى حيث أنا، وأتأمل، وإن صروف الأيام لغرست بي تعباً، وإن الله لحوله في السنة والشهرين الأخيرة إلى زهد، فصار من هدوء متجذر مع ميلادي إلى هدوء تعب إلى هدوء زهد، وبقدر ما كنت أشخص مكاشفة نفسي بقدر ما أني الآن ما عدت أجد بها ما أكاشفه، لقد عافى الله كل الندوب التي بها، حتى صارت كصفحة ماء أبيض صافٍ. وإني لو كتبت هذا المقال من قبل لوجدت في ألمها ما أفيض به الحبر، لكني حقاً لست أجد، أبحث في نفسي في الفترة الأخيرة عن تلك المكاشفات التي كنت أحب تشخيصها فلا أجد، لا أجد غير الزهد يخرج من روحي ويحيط بي؛ فأبحث عن مكاشفة النفس الإنسانية في الأعمال السينمائية أو الأدبية في اللوح والكتب، ويا لله ما أصعب إيجادها، إذ ليس كثيراً ممن يسلكون هذا الجانب، وما أقل من بين القليل من يبدعه.
والآن.. أنا والهدوء الزاهد والزهد الهادئ نشبه صفحة ماء صافٍ يشبه ماء السراب.