الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
تؤكد تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، وتشير الدراسات الطبية والنفسية أن الرضاعة الطبيعية لها قيمة لدى الطفل، حيث يحس من خلالها بالدفء والحنان، والراحة والطمأنينة، لأن لبن الأم أقوى غذاء جسمي، وأشهى غذاء نفسي.
وأمام تهاون الأمهات وتقاعسهن بل عزوفهن عن الرضاعة الطبيعية، وتدافعهن للحياة العصرية، ومخالفتهن للهدي النبوي، والتعليمات والإرشادات الطبية.. يتحدث لـ«الجزيرة» عدد من المتخصصين في العلوم الشرعية والطبية حول العديد من الخصائص والحقائق عن فوائد الرضاعة الطبيعية، وآثارها على الأم وطفلها؛ فماذا قالوا؟
أسرار لبن الأم
يبين الدكتور ماهر بن عبدالغني الحربي أستاذ الفقه والقضاء بكلية الحقوق بجامعة طيبة أن موضوع الرضاعة ورد في القرآن الكريم في خمسة مواضع، وفي كل موضع منها يحمل توجيهاً ربانياً وإرشاداً إلهياً فيه أسرار بليغة، ومعانٍ دقيقة، وكل معنى فيها يختلف عن المعاني التي في المواضع الأخرى، ومن أبرز تلك التوجيهات الربانية التي أرشد إليها القرآن الكريم، ما يلي:
أولاً: حفظ حق الطفل الرضيع في رضاعه حتى يستغني بالطعام عن الرضاع، وفي سبيل حماية هذا الحق أوجبت على الوالدات إرضاع أولادهن وأناطت النفقة على الأب إن كانت زوجته المولود لها مفارَقة، وحذرت من المضارة لتصان نفس الطفل عن الهلاك وتقوى طبيعة بدنه.
ثانياً: إرشاد الأمهات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}، وهو توجيه رباني لكل أم أن ترضع ولدها من لبنها، ولا تلجأ إلى أي غذاء آخر، ولعل من أسرار ذلك ما كشفه العلم الحديث من أن لبن الأم يحتوي على كمية كافية من البروتين والسكر وبنسب تناسب الطفل تماماً، بخلاف البروتينات الموجودة في لبن البقر والغنم والجواميس والتي هي عسيرة الهضم على معدة الطفل لأنها أعدت لتناسب أولاد تلك الحيوانات، وأيضاً من الأسرار في لبن الأم ما يحتوي على العناصر المختلفة الضرورية لتغذية الطفل وفق الكمية والكيفية التي يحتاجها جسمه والتي تناسب قدرته على الهضم والامتصاص، وتلك العناصر الغذائية غير ثابتة بل تتغير يوماً بعد يوم وفق حاجات الطفل ونموه، وبما يفي بحاجياته منذ ولادته وحتى سن الفطام، كما أن لبن الأم يُحفظ تحت درجة من الحرارة معقولة ويستجيب تلقائياً لحاجيات الطفل، ولبن الأم أيضاً لبن معقم جاهز ليس به مكروبات، ولعل تلك الأسباب مجتمعة هي التي تسهم في نمو الأطفال الذين يرضعون من أمهاتهم أسرع وأكمل من نمو أولئك الأطفال الذين يعطون القارورة.
ثالثاً: تضمن التوجيه الرباني الكريم أن ترضع الأمهات أولادهن كمال الرضاعة في مدة الحولين؛ لما في ذلك من الأثر البليغ على التكوين الجسدي، والنفسي والصحي والاجتماعي في حياة الطفل، إذ قد ثبت علمياً أن نمو الدماغ لا يكون تاماً عند الولادة، بل يستمر طيلة عامين كاملين بحيث يكتمل النمو التشريحي والوظيفي، وثبت أيضاً تفرد لبن الأم ببعض المركبات الكيميائية التي لها تأثير كبير في نمو وتطور الدماغ في السنتين الأوليين للحياة، وقد انتهت البحوث والدراسات أيضاً إلى أن مدة السنتين في الرضاعة لها الأثر الكبير والضروري لنمو الطفل نمواً سليماً من الوجهتين الصحية والنفسية، وأن أهم وأخطر فترة في حياة الطفل هي فترة السنتين الأوليين، وخلالهما يتعرض الطفل لكثير من العوامل والأمراض كالإسهال ويستطيع حليب الأم بما يحويه من عناصر مناعية، من حماية الطفل -بإذن الله- من تلك الأمراض.
عطاء الأرض
ويقول الدكتور عبدالله بن محمد المطرود الداعية المعروف: الأرض تحن على أولادها وتعطيهم من خيراتها وتزرع الحب في تجمع عمارها لذا هم ملتصقون فيها مع علمهم أنهم سيعودون إليها بعد نهاية رحلة من عمر الحياة فهم منها خلقوا فكأن الأرض بأمر الله أرضعتهم حباً وسعادة وحياة وعماراً منذ عرفوا وجودهم عليها ولا غرابة في التصاقهم بها وتعميرهم لها والاستمرار في إحياء معلمها بل والدفاع عنها وحمايتها وهذا ليس صدفة فالله قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (55) سورة طه. هذي هي صورتهم من أجل أمهم الأرض فكيف بأمهم من البشر؟
أقول: والأم أعظم أرض حياة فهي منبت حب وغراس حنان ونشر سعادة وبلاغ وطمأنينة وإهداء ود ورأفة وإعطاء رحمة وجلب أمان وتوفير سعادة وكل ذلك يسري إلى وليدها عبر تغذيته المباشرة من لبنها إن وجد وتربيتها له لكن كل ما أرضعت ابنها من لبنها سرى كل ماذكرناه في جسد ابنها ودمه وحياته وتربيته وعلاقته صغيراً كان أو كبيراً شاباً أو زوجاً أو صار أباً، هنا من طفولته ونعومة أظفاره ومن مهده لشبابه وشيخوخته سيصبح قطعة منها وكأنه قد سرت فيه معالم الأرض وكل مقومات حياة الأرض وسيحصل منه البر الحقيقي والحب الدائم والفداء والتضحية المستمرة لأمه وحمايتها والدفاع عنها ورد جميلها، وأعلم أن كل ذلك لا يغيب عن الأم الفاضلة، كما أعلم أن كل أم تريد ذلك بدءاً من وظيفتها كأم مرضعة ومربية إلى أن ترى ثمرة فؤادها وفلذة كبدها يمشي على الأرض فتنعكس صورتها من خلاله وهو يعمر جوانبها كما الأرض بيسر ورحمة وحب وبر يظلله صالح دعائها وحنانها وتوجهه بتوجيهاتها ليحفظ الله أمهاتنا ويرعاهن ويرزقنا البر بهن لتبر بنا أولادنا.
دايت طبيعي
وتشير الأستاذ الدكتور هدى بنت دليجان الدليجان الباحثة الأكاديمية بجامعة الملك فيصل بالأحساء: إلى أن الأمومة هي تلك النعمة الربانية التي فطر الله عليها بنات آدم، وكثير من الصفات الأنثوية الجميلة تنبع من رحم الأم الرؤوم الحانية وذات الدلال والحب والأفضال.
ومن أعظم تلك الصفات ما ينبع من جسد تلك الأنثى اليافعة من شراب للرضيع لتسقيه إياه وتسقيه الشموخ والطموح فيرمق ذلك الطفل الرضيع والدته ليتناول منها حليباً سائغاً شرابه وقيماً فاضلة ومحاسن النفوس العزيزة الكريمة؛ فتمتد وشائج المودة والحنان وتتقوّى روابط الأمن والأمان فيرتبط الرضيع بمرضعته أماً ولوداً أو مرضعة من الأقارب والصديقات ترضعه أواصر الشفقة والعطف والحياة.
وتضيف الدكتورة هدى الدليجان قائلة:كم رأينا من الاتصال والتواصل بين أسر شامخة وكبيرة بسبب رضاعة وليد في مهده خمس رضعات معلومات (فهي قليلة العدد كبيرة الأثر)، فكان ذلك السبب في بناء رابطة الحب والازدهار في المجتمع نسباً وصهراً.
إنها الأم العطوفة أساس بناء المجتمع ومحور الحياة الطيبة الهادئة؛ فأين الخلل في الاهتمام بالرضاعة؟
قال تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (233) سورة البقرة.
فقد أشاد القرآن الكريم بهذه الرضاعة وأوجب على الأب العطوف نفقة الأم المرضعة ووليدها وكسوتهما تشجيعاً لها وتكريماً لها وتحفيزاً لجهدها في رضاعة وليدها الذي يختلط حليبها بدمه وأنفاسها بأنفاسه ووقتها بوقت رضاعته وإطعامه، فما بال الأمهات الرشيدات المتعلمات في عصر القرية الكونية الصغيرة يتنازلن عن هذه الحبال الوثيقة والوشائج المتينة بينها وبين مولودها الغض الصغير، فتهمل رضاعته بسبب رغبة في أناقة أو ظروف عمل أو ملهيات الحياة، مع أنه ثبت في الدراسات الحديثة أن الرضاعة الطبيعية هي أعلى برنامج دايت طبيعي للوالدات المرضعات في رجوع التشكل الجسدي لوضعه الصحي الطبيعي، وأقر نظام العمل ساعة رضاعة لكل موظفة بحسب احتياج رضيعها والتنسيق مع إدارة الموارد البشرية، وفي زمن ازدادت القلوب بعداً والنفوس توحشاً والتواصل ضعفاً بين القريب والبعيد كان لزاماً على الوالدات أن يحتضن أولادهن بحب وحنان ليسقينهم الطموح والمعالي وحب الحياة.
الرضاعة في الشريعة
وتشير الدكتورة مريم بنت عبدالرحمن الأحمد أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة بجامعة الكويت إلى أن الإسلام حض على الرضاعة الطبيعية وأولاها أهمية كبيرة؛ فقد أرشد الله تعالى الوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان في قوله تعالى في سورة البقرة (233): {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}، وقد اعتنى الفقهاء بأحكام الرضاعة، وأمعنوا النظر فيها بالاجتهاد والبحث والتأصيل، فأفردوا باباً خاصاً في كتبهم لمعالجة أحكام ومسائل الرضاعة.
وللرضاعة فوائد للأم والرضيع معاً، ومعلوم أن لبن الأم لا يماثله أي لبن محضر، فهو يحتوي على جميع العناصر التي يحتاجها الطفل بما يناسب تطور عمره ونظيف وآمن لا يحتاج إلى تعقيم، كما أن للرضاعة أثراً في الارتباط النفسي والعاطفي بين الأم والرضيع وفوائد أخرى لا تحصى كثرة، ولذلك نجد القرآن يحث الأمهات على الرضاعة ويلفت النظر إلى أهميتها.
والرضاعة حق ثابت للرضيع؛ يقول تعالى في سورة البقرة (233): {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فأوجب الله تعالى على الأب الإنفاق على المرضعة؛ لأن الغذاء يصل إليه بواسطتها إذ الإنفاق على المرضعة إنفاق له. وقد أباح الإسلام الاسترضاع، وهو أن يرضع الطفل من لبن امرأة غير أمه، فقد تدعو حاجة لذلك؛ كوفاة الأم، أو عدم قدرتها على الرضاع، فتترتب على هذا الرضاع أحكام شرعية؛ مثل ثبوت المحرمية، ولما كان للرضاعة دور في انتقال الأطباع للرضيع استحب الفقهاء اختيار مرضعة حسنة الخلق، ولا شك أن الأم أولى بذلك من غيرها، بل قد يكون واجباً عليها إن لم يقبل الطفل غير أمه.
فينبغي تشجيع الأمهات على الرضاعة الطبيعية وتثقيفهن بأهميتها للأم والرضيع على المدى القصير والبعيد، حتى نحظى بأطفال أكثر صحة وأمهات أكثر عافية وعناية ورعاية بالصغار.
من فوائد الرضاعة الطبيعية
ويقدم الدكتور محمد بن شعيب اليافي طبيب المواليد بمستشفيات الحمادي بالرياض فوائد الرضاعة الطبيعية للأم، المتمثلة في أن حليب الثدي متوفر دوماً، وذو حرارة مناسبة، ويكون جاهزاً للرضاعة في كل وقت وكل مكان، وإنَّه سبب لعلاقة المودَّة والمحبة بين الأم وطفلها، وتساعد الرضاعة الطبيعية الأم، أن تحافظ على الصحة والوزن المثالي، كما أن الرضاعة الطبيعية تنبّه أحاسيس الأم فتشعر براحة واسترخاء إلى أبعد الحدود، وإنَّ الرضاعة الطبيعية تمنع الإباضة والحمل بنسبة 98 %، وتنخفض نسبة سرطان الثدي عند الأمهات المرضعات، ولوحظ انخفاض نسبة سرطان عنق الرحم والمبيض عند الأمهات المرضعات، كما تزداد ثقة الأم وقدرتها على رعاية طفلها إذا كانت مرضعاً.
أما فوائد الرضاعة الطبيعية للمولود؛ فتتمثل في أن الرضيع يحصل على اللَّبأ (السرسوب، الصمغة) في رضعاته الأولى، ويزوّد حليب الأم المولود بالمضادّات المناعية وبذلك يخفف حليب الثدي الالتهابات عند المولود (التهابات الأذن الوسطى، التهابات الطرق التنفسية، أمراض المعدة والأمعاء والإسهال والأمراض الأخرى)، كما لوحظ أيضاً أنَّ الرضاعة الطبيعية تخفف نسبة الداء السكري وأمراض الحساسية مثل: الأكزيما والربو القصبي عند الفتيان والفتيات.
دراسة حديثة
وفي دراسة علمية بعنوان: (اهتمام السنة النبوية بالرضاعة الطبيعية دراسة حديثة علمية) للدكتور محمد صابر عرفة حامد الأستاذ بقسم الحديث وعلومه بكلية أصول الدين والدعوة بجامعة الأزهر الشريف، أوصت أن تقوم كل دولة من دول العالم وخاصة الدول الإسلامية من خلال وزارة الصحة والسكان فيها بعمل سجلات النسب من الرضاعة وتثبت فيها كل طفل وأمه من الرضاعة وعمل واستخراج شهادة تسمى شهادة النسب من الرضاعة حتى لا تختلط الأنساب وهذه السجلات تشبه سجلات المواليد الحالية في الدول، وهذا العمل ليس صعباً الآن وخاصة بعد استخدام الكمبيوتر في تسجيل ذلك الآن، وأن تقوم كلُّ أمٍّ قامت أو تقوم برضاعة طفل غير الأم الحقيقية (الوالدة) بعمل سجل خاص بها بكل طفل أرضعته أو ترضعه، وتراعي فيه وقت الرضاعة ومدتها وعدد الرضعات وإثبات ذلك والإشهاد عليه حتى يرجع له عند اللزوم لمنع اختلاط الأنساب، وأن تقوم كل الدول بعمل إعلانات في أجهزة التلفزة تشجع على الرضاعة الطبيعية وتثبت أهميتها بالنسبة للأم والطفل معاً والمجتمع ككل.
وشددت الدراسة على أن تقوم وزارة الصحة والسكان أو المؤسسات المسؤولة عن الأمومة والطفولة بعمل ما يسمى (بنوك لبن الأم الطبيعي) تقوم على أخذ اللبن الزائد من الأمهات المتبرعات به وإعادته بصورة طبية وشرعية صحيحة للأطفال الذين حرموا من أمهاتهم أو حالت الظروف بينهم وبين الرضاعة الطبيعية من أمهاتهم وإثبات ذلك في سجلات خاصة بالوزارة المسؤولة عن ذلك لعدم اختلاط الأنساب فنقع فيما هو محظور شرعاً وقانوناً، وكذلك قيام كل المستشفيات المسؤولة عن عمليات الولادة بعمل نشرات أو كتيبات وتقوم بتوزيعها على الأمهات الوالدات، وتوضح فيها أهمية الرضاعة الطبيعية للأم والطفل معاً وكيفية القيام بالرضاعة الطبيعية والأوضاع الصحيحة أثناء عملية الرضاعة والنوم وغيرها مما تحتاجه الأم الوالدة حديثاً، وأن تقوم كل المستشفيات المسؤولة عن عمليات الولادة أو وزارة الصحة والسكان عند استخراج شهادات الميلاد أن تقوم بتوقيع الأمهات الوالدات على إقرار توقع فيه الأم على التعهد بالقيام بالرضاعة الطبيعية للطفل ما لم يكن هناك أي مانع من ذلك صحي أو مرضي أو غير ذلك تراه الجهة المسؤولة عن ذلك سبباً مقنعاً.