د. عبدالحق عزوزي
سأنقل القارئ الكريم في هاته المقالة إلى موضوع يشغل الخاص والعام في دول المغرب العربي وفي إفريقيا وغيرها من الأمصار وهو موضوع الاختراق الثقافي، ويمكن أن نتحدث عن مسألة الفرانكفونية والتي تترك وما تزال آثاراً على النسيجين اللغوي والاجتماعي بل والاقتصادي والثقافي على هاته البلدان. فالرئيس الفرنسي الراحل فرانسو ميثيران، كان قد شرح مفهوم الإديولوجية الفرانكفونية، عندما أكد: «أن الفرانكفونية ليست هي اللغة الفرنسية فحسب. إننا إذا لم نتوصل إلى الاقتناع بأن الانتماء إلى العالم الفرانكوفوني سياسياً واقتصادياً وثقافياً، يمثل قيمة مضافة، فإننا سنكون قد فشلنا في العمل الذي بدأناه منذ عدة سنوات»!! فالفرانكفونية عنده، ليست في اللغة الفرنسية، بل هو ذاك الاختراق الثقافي أو هو ذاك الانغماس في تجربة الآخر سياسياً، اقتصادياً، ثقافياً، وهو ما يعني التبعية المطلقة وليست النسبية. وبهذا الخيار الثقافي الاستعماري، نجحت فرنسا في مسح الشخصية الثقافية واللغوية لبعض المجتمعات الإفريقية التي استعمرتها، ومع أن فرنسا فشلت في وأد اللغة العربية أو إخراجها من الميدان في بلدان المغرب العربي، كما فعلت بنجاح في سائر مستعمراتها الإفريقية، إلا أنه سيكون من باب الخطأ، الادعاء بأنها لم تحرز نجاحات كبيرة في مجال تحقيق هدف الاغتصاب الثقافي واللغوي في بلداننا، ويكفي أن لسان فرنسا مازال حتى الآن، لسان الإدارة في هذه البلدان، ولسان التعليم فيها، كما أن المرحوم الدكتور المهدي المنجرة، عالم المستقبليات، كان ما يفتأ يؤكد، إن انتقال الفرانكفونية من الثقافي إلى السياسي، كان وما يزال، يهدف إلى المحافظة على المستعمرات الفرنسية بصفة مباشرة أو غير مباشرة، ويهدف إلى ترويج نموذج صريح واحد لتنمية التخلف في هذه المستعمرات، وهو يرى عن حق أنه لا يمكن فصل الفرانكفونية عن تطورها التاريخي المرتبط بالمرحلة الاستعمارية، وأيضاً بمرحلة التحرر وبالمتغيرات الجديدة، ويؤكد أنه لا يمكن خلق روح التعاون الإنساني ببعد كوني، إذا لم نبدأ باحترام الآخر، منتقداً أولئك الذين يغلفون الفرانكفونية، بمفاهيم أدبية وشاعرية لطمس واقعها الحقيقي.
وأتفق تمام الاتفاق مع الأستاذ محمد أديب السلاوي في مقال جامع ومتميز في الموضوع، غاص فيه تاريخ الفرانكفونية وتأثيراتها على المغرب ودول المغرب العربي، عندما اعتبر الفرانكفونية مشروعاً سياسياً في أساسه، لأنه نشأ لضمان الارتباط الاقتصادي للبلدان -التي كانت تحت الحماية الفرنسية- والحد من تأثير الهيمنة الأمريكية أو بعض البلدان الأوروبية الأخرى كألمانيا والبرتغال وإسبانيا وبريطانيا، بالرغم من تكتلها معهم ضمن الاتحاد الأوروبي أو ما يسمى المجموعة الأوروبية، وسيتطور هذا المشروع السياسي لاحقاً ليتحول إلى مشروع ثقافي هدفه منافسة اللغة الإنجليزية- الأمريكية، وذلك بإنشاء هيئات ومؤسسات مثل المجلس الدائم للفرانكوفونية/ والوكالة الدولية للفرانكوفونية/ والجمعية الدولية للعمداء الفرانكوفونيين/ والجمعية البرلمانية للفرانكوفونية، بهدف تشجيع انتشار اللغة الفرنسية ودعم الجهود المبذولة في ميادين التربية والتكوين والإعلام باللغة الفرنسية، وهو ما حول الفرانكفونية اليوم إلى قوة فكرية ولغوية وثقافية، بل وسياسية واقتصادية بعد أن تقلص ظلها العسكري الرسمي وبرزت في ثوب جديد وبتنظير مختلف عن السابق، وبعدما كشفت عن أنيابها التي غلفتها بقشرة من ذهب مصطنع براق، ولكنه مضلل خادع، خاصة بعدما تكاثرت فئة الداعين إليها، وبدت عداوتها سافرة للعربية وللهوية العربية الإسلامية.
هذا من جانب، ومن جانب آخر لم تفهم الدول الصناعية الكبرى وخاصة فرنسا، الدولة المستعمرة السابقة، تحولات النخب المدنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية في القارة؛ لم تفهم أن هناك أطباء ومهندسين وبنكيين وأساتذة وعسكريين درسوا في كل دول العالم وعندهم خلفيات فكرية مختلفة عن أولئك الذين عاشوا سنوات الاستعمار وتقلدوا منصباً ما بعد الاستقلال؛ لم تفهم هاته القوى الغربية أن النظام العالمي القائم على الغموض والتوجس والتقلب والمجهول يحعل هاته النخب تبحث عن شراكات متكافئة وعن علاقات متوازنة وعن الندية وعن دول لا تحمل نظرات استعلائية في علاقتها مع الآخر ولا تحمل رسائل دعوية أو قيمية؛ ولهذا السبب بدأت الكثير من الدول الإفريقية تطرد اللغة والثقافة الفرنسية من بلدانها والتي اعتبرتها الإليزيه منذ قرن ونصف قاطرة تواجدها ونفوذها في العالم؛ ولهذا السبب ثارت شعوب دول غرب ووسط إفريقيا في توافق حكومي وشعبي ضد الوجود العسكري الفرنسي؛ وفي سابقة تاريخية قامت مالي بإلغاء اللغة الفرنسية كلغة رسمية للبلاد في تعديل دستوري؛ كما أن العديد من العائلات المغاربية لم تعد ترسل أبناءها لإكمال الدراسة في فرنسا؛ إذ بدأت تختار وجهات جامعية جديدة في أمريكا وبريطانيا وكندا وألمانيا وسويسرا؛ وتعليم هؤلاء يكون باللغة الإنجليزية...