د. تنيضب الفايدي
لا شك أن الملك عبد العزيز -رحمه الله- القائد الملهم، المجدد، والمصلح التاريخي، مؤسس المملكة العربية السعودية، ومُوحّد مناطقها وشعبها، طبع بصمته التاريخية وحقق من الإنجازات الوطنية مالم يحققه زعيم آخر معاصر له، ولا بعده، بنى ملكاً بعصاميته، وحفظ للعرب تراثاً مجيداً في البلاد المقدسة، وأقام الأمن والنظام في بقاع كانت تسودها الفوضى، ويهددها الخوف في طرقها وأرجائها، وتتألف من مقاطعات وإمارات وقبائل شتى في مساحات واسعة. رفع راية التوحيد، وطبّق شريعة الإسلام، وجدّد مسؤولية الدعوة إلى الله، على مستوى التزامات الدولة، وأقام وحدة اجتماعية وسياسية وجغرافية كبرى على أساس الإسلام، ففتح الله سبحانه عليه خزائن السماوات والأرض كما وعد الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} الأعراف الآية (96). بل يحق لكلّ مسلم في العالم الإسلامي أن يفتخر ويعتز بهذا القائد الفذ الذي وفّر الأمن والأمان في الحجاز، وأصبح كلّ حاج في أمن وأمان حتى يرجع إلى أهله سالماً غانماً، بعد أن كان النهب والسلب والقتل شيئاً عادياً، وهذا ليس كان سهلاً كما نحن نفكر، بل عانى وواجه كثيراً من المصاعب في إرساء الأمن والأمان في هذه الجزيرة.
إن مفهوم أمن الحجيج وموضوعه واسع ومتشعب ومتعدد الجوانب، فحفظ الضرورات الخمس (الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض)، من أولويات الأمن، وقد أمر الشرع بحفظها وأوجب رعايتها، ومن هنا يندرج تحت هذا الموضوع أمن الأفراد والمجتمعات من الجرائم والاعتداءات على الأنفس والأموال والأعراض، والأمن الديني في العقائد والعبادات والمعاملات، والأمن الصحي، والأمن الغذائي، والأمن المدني، والأمن الحدودي، والأمن الإداري ...إلخ. ولاريب أن الخوض في جميع هذه الجوانب فيما يتعلق بأمن الحجيج واسع وطويل، ويحتاج إلى بحوث مستقلة ومتخصصة. لذا سأقتصر حديثي هنا على جزئية منه وهو ما يتعلق بأمن الحجيج فقط، ولكي ندرك حجم ما قام به الملك عبد العزيز (رحمه الله) من عمل جبّار في هذا المضمار لابد من إعطاء الضوء أولاً عن حال الحجاج قبل عهد الملك عبد العزيز ثم نتطرق إلى بيان إنجازاته الأمنية في الحرمين الشريفين، وتوفيرها لزوار بيت الله الحرام.
كما هو المعلوم بأن الأمن حاجة إنسانية ملحّة لايمكن استقرار الحياة إلا به، فهو مصدر اطمئنانها ومنبع هنائها واستقرارها، لذا نجد بأن جميع الأديان السماوية هدفها الأمن للناس، وآخرها الإسلام الذي وعد بالأمن في الدنيا والآخرة لمن طبقه وعمل أوامره قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} الأنعام الآية (82)، وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} النور الآية (55). ونظراً لأهمية الأمن على الحياة البشرية فقد قدّم إبراهيم عليه السلام في الدعاء الأمن على الطعام والغذاء قال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} البقرة الآية (126).
فالأمن نعمة عظيمة جليلة على العباد لممارسة حياتهم وعبادتهم، وقد امتنّ الله تبارك وتعالى بهذه النعمة على العرب حين دعاهم إلى عبادته والإيمان به وبنبيه فقال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} قريش الآية (3-4). وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} العنكبوت الآية (67).
والأمن الذي وعد الله به الإنسان أمن عام، يشمل كافة مجالات الحياة، إذ يدخل فيه الأمن على النفس، والأمن على البدن، والأمن على الولد، والأمن على الغذاء، ونحو ذلك مما يعمّ كافة أنواع الأمن الاجتماعي للإنسان.
أمن الحجيج قبل عهد الملك عبد العزيز (رحمه الله)
الذاهب إلى الحج مفقود والعائد منه مولود، هكذا أصبحت هذه المقولة مثلاً تبيّن حال الحجيج وتعبّر عن مدى ما يكتنف الحجاج من مخاطر ومهالك وسلب ونهب في الطريق إلى الحج، قد تصل إلى حد قتلهم من قبل قطاع الطرق أو موتهم جوعاً وعطشاً أو برداً، فكان الأمن إلى الحج معدوماً ولاسيما في طرق الحج إلى مكة المكرمة، ولاسيما سيطرة القبائل على الطرق المؤدية إلى الحرمين، وكُتُبُ التاريخ والرحلات مليئة بذكر تلك الحوادث، يقول طلعت حرب: «إن فريضة الحج كانت فيما مضى ضرباً من الاستشهاد، يودّع الحاج أهله ويودعونه كأنه ذاهب إلى غير رجعة».
قال الورثيلاني في رحلته للحج سنة 1179هـ: «لم يكن الحاج آمناً على نفسه في الطريق، فسواء كان رحيله بالليل أو النهار، في جماعة أو منفرداً، في الخلاء أو وسط العمران، فهو معرّض للاعتداء أو السرقة ونحو ذلك من أنواع الخوف وعدم الاطمئنان، ويكاد أن يكون الحج ساقطاً من ظلم الولاة وأصحابهم».
إضافة إلى ما سبق من المخاطر والتهديدات على القادمين إلى الحرمين الشريفين في الطريق فقد درج كثيرٌ من أمراء مكة على فرض مكوس على الحجاج حتى ألغاها صلاح الدين الأيوبي واستمر إلغاء المكوس طوال عهده إلى أن قام أمير مكة قتادة بن إدريس الحسني بتجديد المكوس سنة 617هـ حتى ألغى جميع ذلك الملك عبد العزيز رحمه الله. يقول شلهوب معاون وزير مالية الملك عبد العزيز: «فحين أتيت من المنفى في الكويت مع الملك كانت كل خزينة الدولة في محفظة النقود». ولم تتحسن الحالة المالية كثيراً طوال الثلاثين التالية، خاصةً لم يكن همّ الملك أن يزيد الإيرادات بالضرائب أو المكوس، وقد أعفى -رحمه الله- الرسوم من الحجاج، مع أن الوضع المادي للدولة لم يتحسن بعد؛ لأن الأمن كان أمنيته فقد روى يوسف ياسين أنه سمع الملك عبد العزيز يقول: «أمنيتي في حياتي أن أسقط عن المسلمين رسوم الحج»، وفعلاً أمر أن يبرق إلى ابن سليمان بإعفاء الحجاج من الرسوم، فجاء ابن سليمان يقول: يا طويل العمر، ثلاثون مليون ريال من أين أعوضها للميزانية؟ فأجابه: «دبّر نفسك». تاريخ الدولة السعودية لأمين سعيد (ص16). ففتح الله عليه خزائن السماوات والأرض؛ لأنه أراد بالمسلمين خيراً.
كما كانت أمنيته رحمه الله هو تحقيق الأمن والاطمئنان لحجاج بيت الله الحرام القادمين من كل صوب، وأن لا يتعرض أي حاج في ذهابه وإيابه إلى الحرمين الشريفين بأي نوع من الأذى، وقد أكّد رحمه الله بإحلال الأمن وتوعد كل من يحاول الإفساد في الأمن حيث أوضح في بلاغه أن أوضاع البلاد الداخلية لن يصلحها إلا استتباب الأمن ووعدهم بتحقيق ذلك، ومن جانب آخر توعد من يحاول إفساد الأمن».
الأمن في عهد الملك عبد العزيز (رحمه الله)
إن أمن الحجيج في عهد الملك عبد العزيز لم يقتصر على سلامة أرواحهم وممتلكاتهم فقط، وإنما شمل جوانب متعددة، مثل تقديم التموين اللازم للحجاج ومساعدة المحتاج منهم، واقتطاع مبالغ من بيت المال للمسافرين والحجاج. كما شكّل رحمه الله هيئة خاصة لرعاية المياه لعين زبيدة وزيادة مواردها من المياه والمحافظة على تلك المياه من خلال تجديد مجاريها، والبحث عن عين أخرى مساندة لها، وفعلاً تم افتتاح العين الجديدة، وكل ذلك حتى لايواجه أي حاج العطش في أثناء أداء مناسك الحج.