د. عبدالحق عزوزي
لا غرو أن البيئة الدولية المعاصرة أضحت أكثر ضبابية وأكثر تعقيداً وأكثر غموضاً من أي وقت مضى؛ «فوهن القوة» هو الطابع الذي يمكن أن نصف به هاته المرحلة الحاسمة من تاريخ البشرية، فالقوة بمفهومها التقليدي الكلاسيكي فقدت أكثر من معنى مع ازدياد الفاعلين في البيئة الدولية المعقدة... ولم تعد بعض الدول القوية كالولايات المتحدة الأمريكية تتوفر على نفس الردع الاقتصادي والعسكري والحمائي، بل وحتى الثقافي كما كانت عندها في السابق... كما أن المواطنة العالمية بدأت تتغير معالمها ولم تعد المصلحة العامة تطغى في سياسات بعض كبار الفاعلين في النظام العالمي الجديد؛ كما أن مواضيع مثل الهجرة أضحت من المشاكل الأوروبية والأمريكية المستعصية، حيث تتداخل فيها عوامل السيادة والاقتصاد والاندماج واللجوء السياسي والانتخابات وبروز الأحزاب اليمينية وكراهة الأجانب... كما أن كل أولئك الذين ينادون «بأنسنة» المشكلة عن طريق بعض الحلول التي تفيد الجميع، كضرورة عدم جعل المهاجرين رهائن لسياسة أمنية وسياسة لمحاربة الإسلاموية تم تبنيها في حوض المتوسط، وكضرورة عدم الخلط بين الهجرة والإرهاب والمخدرات والجريمة، وذلك بفضل دمقرطة التنقل عبر الحدود لأكبر عدد ممكن، لم تعد نسمع أصواتهم خاصة بعد وصول أحزاب جد متطرفة إلى سدة الحكم؛ فرأينا في الأشهر الأخيرة الاجتماعات اللا مسبوقة بين مسؤولي الاتحاد الأوروبي في موضوع الهجرة؛ وها نحن نرى أنه في إطار القانون الجديد الذي سيتم بموجبه ترحيل طالبي اللجوء على أراضيها إلى رواندا، تعلن الحكومة البريطانية أن أول دفعة من هؤلاء ستشمل نحو 5700 شخص «بحلول نهاية العام». ووقع الاختيار على هؤلاء من بين 57 ألف شخص وصلوا عبر المانش إلى المملكة المتحدة بطريقة غير قانونية، بين بداية كانون الثاني/ يناير ونهاية حزيران/ يونيو 2023 .
وتتوخى لندن من هذا القانون وقف نزيف الهجرة نحو البلدة فيما تتواصل موجة الهجرة نحوها عبر المانش، حيث ارتفع عدد الأشخاص الذين عبروه بشكل غير قانوني على متن قوارب منذ بداية العام بنسبة 41.7 في المئة مقارنة بنفس الفترة من 2023، ليصل إلى مستوى قياسي، وفق أرقام رسمية. وأكد تقرير برلماني تلقي بريطانيا أكثر من 67 ألف طلب لجوء في العام 2023 .
ويحاول رئيس الحكومة البريطانية ريشي سوناك، وهو من أصول هندية، جعل محاربة الهجرة غير الشرعية إحدى أولوياته وتعهد بوقف قوارب الموت التي تصل إلى البلاد، وهو رهان سياسي يحاول كسبه لإمداد الأوكسجين لمعسكره أمام تصاعد صيحات المعارضة العمالية بقيادة كير ستارمر، التي تمنحها استطلاعات الرأي فوزا كبيرا في الانتخابات التشريعية المنتظرة بعد أشهر قليلة.
أما في كندا وبالضبط في كيبيك، فإن المدينة تعيش على حافة «أزمة إنسانية» في ظل تدفق طالبي اللجوء. وفي كل الأحوال، هذا ما تؤكده السلطات الكندية. ففي عام واحد، قفزت طلبات اللجوء في البلدة بنسبة 56 %. تمت معالجة 144 ألف ملف من قبل وكالة خدمات الحدود والهجرة الكندية في عام 2023. ووفقاً لدراسة أجراها معهد متخصص بالهجرة فإن غالبية سكان كيبيك يعتمدون على الهجرة لمحاربة شيخوخة السكان ونقص العمالة.
أما في فرنسا، وقبل أسابيع من انطلاق الألعاب الأولمبية في باريس، والتي تستعد لاستقبال نحو 15 مليون سائح، فقد نددت أكثر من ثمانين منظمة غير حكومية بما تطلق عليه «التطهير الاجتماعي» للمدينة، وهو ترحيل من هم بلا مأوى وضمنهم مهاجرون ولاجئون، وعاملو الجنس إلى مدن أخرى.
كما قفزت طلبات اللجوء في الاتحاد الأوروبي 18 بالمئة إلى 1.14 مليون في 2023، وهو أعلى مستوى منذ أزمة المهاجرين في 2015 - 2016، وفقا لما أظهرته مؤخراً بيانات من وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء. وشكل الأتراك ثالث أكبر مجموعة من المتقدمين بزيادة في عدد الطلبات 82 بالمئة مقارنة بالعام السابق. فيما ظل السوريون والأفغان يشكلون أكبر المجموعات المتقدمة بطلبات لجوء
مشكلة الهجرة ستتعقد أكثر فأكثر، وسيعاني المهاجرون من مشاكل متعددة، كما أنه بدل أن تصرف الملايين من الدولارات «الغربية» في تنمية دول الجنوب لتشجيع المهاجرين المحتملين في البقاء في بلدانهم، فإنها تصرف في إقامة الحواجز والقيود براً وبحراً، حيث إن مفعولها قليل مع عولمة الحدود وتفشي ظواهر تهريب المهاجرين المتعددة، ووهن الحدود في إطار القرية العالمية التي يعيش فيها الثقلان...