د.عبدالله بن موسى الطاير
الغرب الأوروبي يحتفل كل عام بيوم الإنزال، المعروف أيضًا باسم إنزال نورماندي أو D-Day، ويجتمعون هذا العام في الذكرى الثمانين لذلك الإنزال الذي حدث في يونيو 1944م، حيث غزا الحلفاء نورماندي بفرنسا خلال الحرب العالمية بهجوم برمائي ضخم مثل نقطة تحول في الحرب ضد ألمانيا النازية. شارك في ذلك الهجوم كل من الولايات المتحدة الأمريكية بأكبر فرقة من القوات، والمملكة المتحدة، وكندا إلى جانب كل من أستراليا، بلجيكا، تشيكوسلوفاكيا، فرنسا، اليونان، هولندا، نيوزيلندا، النرويج، وبولندا.
تستمر الاحتفالات بضعة أيام يشارك فيها رؤساء الدول، ويحضرها من بقي من المحاربين الذي شاركوا في ذلك الإنزال. تعد الذكرى الثمانون ليوم الإنزال بمثابة إعادة شحن لذاكرة الغربيين بالتضحيات الهائلة التي تم قدمها جنودهم وخاطروا بحياتهم لتحرير أوروبا من قبضة النازية.
احتفالات هذا العام مختلفة، فهناك طغيان في الشرق الأوسط لم يتمكن أحد من إيقافه، كما أن اليمين الذي تسبب في وصول النازية للحكم، ومن ثم تفجرت على خطاها براكين الحرب العالمية الثانية يغزو الديموقراطيات الغربية، ويتشكل خطاب وطني شوفيني يتمدد عبر المحيط، وتراجع حاد في الحريات.
لقد كان إنزال 1944م أبيض البشرة، أزرق المقل والدم، ولذلك وجد رئيس وزراء بريطانيا نفسه غريباً وطارئاً على ذلك التجمع فترك المجتمعون خلفه وعاد إلى بريطانيا من أجل حضور مقابلة تلفزيونية ما جعله يعتذر ويعترف أن مغادرته كانت خطأ لم يكن يجب أن يحدث. لقد قدم هدية لمنافسيه في الانتخابات العامة البريطانية واستثمرت بشكل جيد ضد حزب المحافظين. لا شك أن حضور سوناك وهو زعيم الدولة الثانية في الإنزال، وانتمائه لعرق ملون، وحضور رئيس أوكرانيا التي تخوض حرباً ضد روسيا دفاعاً عن أوروبا كما تقول، يشيران إلى ضخامة التغيير الذي حدث في أوروبا على مدى 80 عاماً، إذ لم يدر بخلد تشرشل أنه بعد ثمانين عاماً سيكون في معقده مواطن بريطاني من أصول هندية، كما لم يدر بخلد قادة الحلفاء أن أوروبا ستحتفل بعد ثمانين عاما والحرب في أطرافها.
80 عاماً على يوم غير وجه التاريخ وهزم النازية ودول المحور وأسس للنظام العالمي الذي نعيشه، ولا نستطيع أن ننكر أن البشرية نعمت فيما بعد الحرب الثانية باستقرار وتقدم علمي وتقني لا مثيل له، إلا أنه مع الوقت فقد النظام العالمي عدالته التي أعلن أن الجنود ماتوا من أجلها، وفقد البوصلة التي وجهت اهتمامه وحشدت قوته لتحرير أوروبا والعالم من خلفها، فالحرية والعدالة والديموقراطية اصطبغت بلون المنتصر الغربي فتكونت ثقافة استعلائية إقصائية همشت القيم والثقافات غير الليبرو-ديموقراطية، وسمح المنتصرون الكبار في أمريكا وأوروبا الغربية لأنفسهم بوضع مسطرة يقايس عليها العالم تصرفاته وجهوده في مجال الحريات وحقوق الإنسان والديموقراطية، فتحولت مقاصد التعددية إلى أحادية مقيتة تخالف مبادئ التعددية وحرية الاعتقاد وتضيق مسحة التنوع.
إذا كانت أعمار الأمم تقاس بجيل إلى ثلاثة أجيال، فإن المؤشرات تقودنا إلى الاعتقاد أن ما تبقى من عمر النظام العالمي الحالي يوشك على النفاد، وأن هناك مطالب وظروف واشتراطات ملحة تدفع ببديل قادر على تحقيق العدالة والتنوع وتفضي إلى الاستقرار ولجم الطغيان، فهل يمكن أن تسهم المدنية الأكثر تقدما عمَّا كانت عليه عام 1944م في إحداث تغيير سلمي؟ أم أن طبيعة الإنسان المتوحشة سوف تفرض القوة الصلبة للتغير والانتقال إلى نظام عالمي أكثر كفاءة، ويكون ثمنه دماء كثيرة وملايين الضحايا مع تقدم أسلحة الدمار الشامل وشيوع حيازتها؟
أوروبا أشعلت فتيل الحرب الثانية عندما بلغ الطغيان والحروب فيها حداً لا يمكن تحمله، ولذلك انتفضوا لفرض السلام عن طريق حرب بشعة ومدمرة، ومعطيات اليوم تشير إلى أن الشرق الأوسط مرشح لحرب جديدة تغير مسار العالم فيما لو نشبت. إن حتمية الحرب ليست وشيكة، فلا يزال بإمكان الدول القادرة على تدبير حلول لأزمات الشرق الأوسط بذل وسعها، أما الإصرار على إدامة الأزمات من خلال إدارتها وتفادي الحلول الجذرية لها فإنه مثل المسكنات التي تخدر الألم ولكنها لا تعالج الأسقام.