د.نادية هناوي
المعتمد الأدبي Literary Canon مصطلح ابتكره النقد الغربي ويعني انتخاب جملة من الأعمال القصصية والروائية الكلاسيكية لتكون - وفقا لاعتبارات محددة وبمقتضيات خاصة - مقررات دراسية تعتمد في مناهج الدراسة على مختلف مراحلها الأولية والثانوية والجامعية، وتبدأ بالكتاب المقدس ومسرحيات شكسبير وتنتهي عند أعمال كبار الكتاب والمفكرين والروائيين والشعراء.
وممن تبنى هذا الفهم للمعتمد الأدبي هارولد بلوم وحصر منتخباته في الأدب الغربي تحديدا، وعد شكسبير شخصية محورية وبدأ بالكوميديا الإلهية لدانتي وانتهى بـ(نهاية اللعبة) لصموئيل بيكيت، وما بينهما أكثر من عشرين أديبا غربيا، تناول أعمالهم بالشرح والتحليل في كتابه (التقليد الأدبي الغربي: مدرسة العصور وكتبها) وقال في مقدمته:(لست معنيا مباشرة في هذا الكتاب بالعلاقات التناصية القائمة بين هؤلاء المؤلفين الستة والعشرين، إذ إن غايتي هي تناولهم كممثلين للتقليد الغربي برمته). وهذا يعني أنه يرى في نتاجات هؤلاء الأدباء مصادر أصيلة. ولذلك أهمل تتبع تاريخ السرد الشرقي وما فيه من أنظمة وتقاليد تقع خارج المنظومة الغربية، ووجه اهتمامه نحو الغرابة بوصفها معيار الأصالة التي تأتي عن (قلق التأثر) وخص الشعر بالتطبيق، وجعل الغلبة للشعراء الأوروبيين. وعنده الشعر أصيل حين يقوم بإعادة تأويل النص القديم ويمضي قائلاً: (ليس التقليد عملية تسليم وانتقال وديعة فحسب، بل هو أيضا صراع بين عبقرية ماضية وطموح راهن تكون فيه الجائزة، الانضمام إلى التقليد.. وتأتي القصائد والمسرحيات والروايات والقصص كرد فعل على قصائد ومسرحيات وروايات وقصص سابقة. وهذا الرد يقوم على أفعال قراءة أو تأويل يقوم بها الكتاب اللاحقون. هي افعال تكون مطابقة للأعمال الجديدة). واستدرك على قوله هذا بقول مناف ورد في موضع لاحق من كتابه أعلاه وفيه ذكر أن قراءة كتب السلف هي دفاعية حسب، وليس هناك خصام أدبي، فيه النصوص تتصارع من أجل البقاء، وإنما هي لغة استعارية تجعل كتب الخلف كقصائد وروايات ومسرحيات مفضلة على كتب السلف ومعتمدة في ما ينبغي اختياره لتعليم الطلاب في المدارس والمعاهد، بل إننا ما أن ننظر إلى التقليد بوصفه علاقة القارئ الفرد والكاتب الفرد بما تم حفظه من النصوص المكتوبة حتى يكون بالإمكان النظر إليه باعتباره مطابقا للنص الأدبي للذاكرة، وأضاف بلوم: (نحن نملك التقليد لأننا فانون ولأننا أيضا جئنا متأخرين)!!
ولا يخفى ما في هذا التسويغ من إنكار للتاريخ السردي وما يحويه من أصول وجذور لا لشيء سوى حصر التقاليد وتحييدها فيما هو حديث ولاحق يمثله النص الأوروبي/ الغربي سردا وشعرا. ولقد أدرك بلوم أن في هذا التحييد انغلاقا فكريا لذلك استدرك مرة أخرى بالقول: (الدفاع عن التقليد الغربي ليس بأي حال دفاعا عن الغرب أو المغامرة القومية).
والمتحقق غير ذلك، بدليل أن ما اعتمده من كتب لدانتي وتشوسر وشكسبير وسرفانتس وفاوست، يؤكد أنه يحصر صناعة التقاليد الأدبية بالأدب الغربي وحده.
وعد بلوم التقاليد مسألة نفسية تتعلق بـ(قلق التأثر) وقصد بهذا المفهوم جعل الأولوية في التقليد محسوبة لمصلحة الأديب الحفيد الصاعد على كاهل الأديب الجد، فشكسبير ينتمي إلى عصر العمالقة قبل الطوفان وأنشودة ورزدوروث عظيمة بسب شبح قلق التأثر العائد للقصيدة الأم وهي لسيداس لملتون. وانطلق في نظريته هذه التي طبقها على الشعراء الأوروبيين من منظور فرويدي يرى السلف الشعري رغم جبروته هو عرضة لأن يؤثر فيه الحفيد القادم. ووصف الأمر بعملية قلب سريالية هي (ببساطة تحويل للشخصية وشكل من أشكال التخلي عما هو ثمين، والوقوع في براثنه يفرز إحساسا إن لم نقل واقعا بالخسارة). وما بين الفرويدية والسريالية والوقوع والتخلي تغدو نظرية بلوم متأرجحة أو غير دقيقة في تسويغاتها ولا موضوعية في تمثيلاتها، اذ كيف يجعل قلق التأثر من المتأخر مؤثرا في المتقدم؟
ومنطقيا يكون المتأثر اللاحق أقل أصالة من المؤثر السابق لكن هذه الأصالة لا تحول دون أن يكون المتأثر قادرا على تطوير عملية التقليد، وقد يكون للمبتكر أن يطور من دون أن تلغي تطوريته الابتكارية أصالة الأول الذي هو صاحب التقليد المعتمد سلفا في الكتابة الأدبية. أما مسوغ بلوم حول قلق التأثر الذي يجعل من اللاحق بالضرورة أرفع من السالف، فبما دعاه بالتكتم الشعري ويعني دراسة دورة الحياة الشعرية للشاعر المتأثر بشعراء آخرين أقوياء وقدماء (أجداد)، بناء على خمسة مسارات جعلها كلها تصب في مصلحة الشاعر اللاحق (الحفيد) هي:
1ـ مسار الانحراف عن السلف بحركة تقويمية.
2ـ مسار التكامل والتضاد أي أن الشاعر يكمل سلفه بشكل تضادي.
3ـ مسار القطيعة مع السلف كرد فعل دفاعي حركي ضد التكرار.
4ـ مسار السمو المضاد لسمو السلف.
5ـ مسار التطهير والنرجسية يحقق حالة خلوة تحجم السلف وتحتويه.
ولا يخفى ما في دلالات (التكتم / الانحراف/ القطيعة/ النرجسية) من اعتلال نفسي، يؤكده بلوم نفسه حين يصف قلق التأثر بأنه (مرض وعي الذات) الذي يجعل تاريخ الأدب الأوروبي هو تاريخ القلق كتقليد رئيس منذ عصر النهضة. وليس في هذا التوصيف من حرج بالنسبة إلى بلوم لأنه بهذا التخريج النفساني ينفي حقيقة أن الغرب حرم من نعمة السبق وأنه كلما أراد أن يبتكر، تذكر أن هناك أدبا سابقا أصيلا وله تقاليد، فكانت تلك أحد أهم مسببات عقدته الاستشراقية.
وليس بلوم وحده من شعر بعقدة وجود سابق أصيل، فالفلاسفة والمفكرون الأوروبيون أعلنوا عن هذه العقدة في طروحاتهم. ومنهم نيتشه وكيركغارد ومثل بلوم كثيرا بآرائهما كقوله: (أعلن كيركغارد وفي خوف وارتعاش وبثقة مدهشة لاهوتية أن الذي يريد أن يعمل ينجب أباه لكنني أجد اعتراف نيتشه المقتضب أكثر دقة عندما يقول: عندما لا يكون للمرء أب جيد فعليه أن يخترع واحدا. أعتقد أن قلق التأثر الذي نعانيه جميعا شعراء أو نقادا يجب أن يحدد في أصوله أولا في عتم ما يسميه فرويد بكثر من الذكاء العالي رومانسية العائلة).
ولأن هارولد بلوم ينفي وجود منابع أو أصول غير أوروبية/ غربية، رفض نظرية فيكو القائلة إن لا معرفة من دون ابتكار رجال بدائيين يملكون خصوبة المخيلة، ورفض منطق الاستمرارية وعد قراءة السلف السلبية أو (الضالة) علامة صحة لأنها ضد الاستمرارية وضد الملكية التي فيها تتجلى الأسبقية.