رقية نبيل عبيد
أحيانًا تكفينا بضع صفحات في رواية أو مشهد واحد في فيلم طويل لكي نتعلق بشخصية أيما تعلق وتعلق في قلوب وأذهان القراء أو المشاهدين دون غيرها، أذكر في فيلم ديزني الكارتوني up كان تعلق الجمهور الكبير لهو بشخصية «إلي» الفتاة المحبة المشاغبة والتي تكبر في ثوان ونراقب رحلتها حتى تصل أرذل العمر، الفيلم يتجاوز الساعة لكن هذه الدقائق هي كل ما يتحدث عنه جمهور الفيلم وكل اقتباس فيه لا يكون إلا منها، هكذا كان الرجل الطيب والمعلم العظيم فيتاليس، حينما تُذكر قصة ريمي يكن هو أول الحاضرين فيها لذا كانت دهشتي كبيرة وأنا أراه لا يحتل إلا أقل من ربع الرواية، لكن أثر هذه الشخصية كان عظيمًا في نفوسنا نحن القراء، فيتاليس لم يكن رجلًا طيبًا فحسب، بل كان ينضح بالحكمة والمحبة الصادقة والعدل المنصف، وكل فضيلة لم يكتسبها ريمي من السيدة باربران التي ربته كان لفيتاليس الطيب الفضل فيها، وكل مشقة ومحنة مرت بريمي بعد رحيله ما أعانه على تجاوزها إلا ما اكتسبه حينما كان بجوار فيتاليس، وأبدًا ظل يذكر الرجل الطيب يقف شامخًا أبيًا حتى في أحلك الليالي الباردة الرهيبة التي مرت عليهم وهم لا يملكون ما يجنبهم ويلاتها ولا ما يسد بطونهم الجوعى، وكان منظر السيد ذاك الذي تشي به كل حركة وإيماءة وكلمة ينطقها فيتاليس هي أكثر ما يخلب لبّ ريمي ويثير فضوله ليعرف كيف صار هذا السيد الشامخ مرقّص كلاب متشرد يجوب شوارع فرنسا بحثًا عن لقمة عيشه.
أنا طفل لقيط، هكذا تبدأ الرواية بأهم وأعظم اعتراف لدى ريمي، فمنذ اكتشف السر الرهيب وهو يطوي في صدره وجعاً عظيماً هو وجع الغربة، الغربة عن كل الموجودات، لهذا كان عنوان الرواية بلا عائلة لأن كل ذي جنس ينتمي إلى جنسه وكل بني آدم له موطئ في هذا الكون المتنوع الواسع، له وطنه وأرضه وعائلته، عدا ريمي، وكونه طفلاً لقيطاً كان أعظم ما مر به من فواجع، ولذا كانت سعادته لا توصف حين اكتشف أن له عائلة واسماً ووطناً ويسافر رفقة ماتيا إلى لندن للقائهم.
الكل يحفظ القصة، ريمي ابن لعائلة ثرية اختطف من أهله وتُرك في شوارع باريس، حيث عثر عليه السيد باربران والقصة بعدئذ معروفة من بيع السيد له وهو في الثامنة إلى الموسيقي المتجول فيتاليس، لينضم إلى فرقته وليتعلم أعظم دروس حياته من النبل والتواضع والشجاعة والحلم والوفاء، ويلتقي بالسيدة مليغان وابنها آرثر إحدى أكبر أثرياء لندن مصادفة، ثم تمضي فصول الحكاية ليموت فيتاليس ويُؤوي المزارع الطيب آكان ريمي إلى بيته بين أولاده الأربعة، ويُؤخذ ريمي بطيبة وجمال الابنة الصغرى الخرساء ليز والتي صار ريمي رفيقها المفضل وأحب إليها من إخوتها، ويُسجن المزارع بعد عامين بسبب الديون ويتمزق شمل الأسرة، ولمّا تقرر العمة أن يرحل كل طفل إلى أحد الأعمام إذا بريمي يسألها وماذا عني؟ أجابت العمة بدهشة أنت؟ لكنك لست من العائلة! وأقر ريمي وقلبه ينفطر بصحة كلامها فهو ما كان يومًا من العائلة وحين التف حوله الإخوة يبكون حالهم وحاله ضمهم ريمي إليه وأخبرهم بقرار أدهشهم قال أنا أخوكم وسأثبت ذلك، وحمل قيثارته وعزم على استئناف حياة الترحال والتشرد والتكسب من عزفه وعروض كابي الكلب الوفي والناجي الوحيد من فرقة فيتاليس وأثناء ذلك سيمر عبر كل مدينة يسكنها أحد الإخوة ليحمل أخبارهم إلى البقية وآخرهم ليز الحبيبة، ويلتقي ريمي بماتيا الذي صار شريدًا هو الآخر ويرجوه أن يسمح له بمرافقته فيوافق ريمي، وكان ذلك فيه كل الخير له فماتيا شديد الموهبة وحاذق وذو تفكير وقّاد يغلب حتى ريمي وأنقذ إخلاصه ريمي أكثر من مرة.
ما أرعبني هو أنهما حينما سافرا لندن وقد عرفا أخيرًا أن لريمي عائلة، عمه جيمس مليغان المسؤول عن اختطافه على أمل أن تؤول ثروة أخيه الراحل إليه كان قد أحكم الخيوط حول ريمي جيدًا، هكذا لما وصل لمكتب المحامين دلّوه على أسرة مؤكدين له أن هذه أسرتك، كانت الأسرة تعيش في فقر مدقع لكن ليست هذه المأساة فلم يمض وقت طويل حتى اكتشفا أن مصدر الرزق لديهم هو السرقة! وذعر ريمي لكنه ظل معهم من دافع الوفاء لعائلته المزعومة وباح له ماتيا بالفكرة التي ترعبه وتؤرّقه ليل نهار وهو أن تكون هذه الأسرة هي من اختطفته من أسرته الحقيقية! ويتضح أنها الحقيقة فعلًا ويعود الصديقان لفرنسا حتى يعثرا على السيدة مليغان مجددًا ويلتم شمل الأسرة، أموال أسرة مليغان الطائلة والتي صار ريمي كبيرها تحل كل صعوبات الرواية فالأب المزارع يغادر سجنه والسيدة باربران تعيش في بحبوحة ويتزوج ريمي بليز ويعيش في غبطة هانئة فيما يصير ماتيا أبرع موسيقيي عصره.
إن ما يُتعلم ويُجتلب بالود الصادق والصبر والتفهم العميق والابتسامة البشوش لا يمكن قط أن يُجتلب بالظلم والتجويع والعصا والترهيب، لقد كان غارفولي يحوز في عصابته على ثروة تلك هي الصبي الصغير واسع العينين ماتيا كان ماتيا موسيقيًا من الطراز الأول وما كانت هنالك آلة يمكن أن تنفخ موسيقى إلا وأجاد عزفها وكل الحياة وكل الأصوات كانت ما يسمعها في أذنيه إلا أنغامًا متراقصة هكذا لما تعلم وكبر صار فنان البلاد الأول لكن آنذاك في ذلك المنزل الخرب الفقير والذي كان لا يحمل إلا الترهيب والعصا ولا يفكر فيه الأولاد إلا في طريقة جني الأموال التي تجنبهم ويلات السياط ليلًا ما كان بإمكان ماتيا هناك إلا أن يفكر في أمرين الضربة التالية على رأسه المسكين وقدر الطعام المغلق بالقفل والذي تفوح منه أشهى الروائح فيما يتضور هو جوعًا وقد حرم أيامًا من الطعام، الفرق الرهيب الذي كان وسيصبح بين شخصه وهو بجوار ريمي الطيب، ريمي الذي سيتخذ منه رفيقًا ومؤنسًا ومعينًا وأخًا هذا الفرق هو ما حملتي على التأمل، فماتيا لم تتبرعم مواهبهم الموسيقية الفذة فحسب، بل كشف عن حذاقة ومهارة وبُعد بصيرة ووفاء صادق كان لريمي بفضلهم كل المعونة والمنفعة وأبدًا ظل مخلصًا لصديق الرحلة والمعاناة هذا.
الرواية الفرنسية الجميلة العذبة، كل ما فيها سلس سهل بدءًا من اللغة ومرورًا بالشخصيات وانتهاءً بالحادثات التي تسري بين صفحات الرواية، الفكر الراقي والحكمة الخالصة هما أعذب ما فيها، ليس غريبًا إذًا أن تبقى، ليس غريبًا أن تخلد، وأن تترك هذا الأثر في ملايين الأنفس التي جاءت وتجيء بعد رحيل كاتبها، ليس غريبًا أن تُترجم أفلامًا سينمائية وحلقات كارتونية تلفازية.