مشعل الحارثي
هو ذلك المنهل الطيب والنبع المهيب، عطاء رب السماء وعفوية الاستغاثة والنداء من امرأة وطفلها الرضيع عندما كانت تقف هناك في أرض جرداء لا يحرسها إلا الخواء، وتتكئ على سكون رهيب بعد أن نفد الغذاء وجفت (شنة) الماء، ولم يكن حولها قريب ولا مجيب، إلا الأمل والثقة الذي لم ينطفئ بداخلها في لطف الخالق الكريم وجوده العظيم، وأنه لن يتركهما وحيدين ليقتلهم الجوع والظمأ، فكانت الاستجابة السماوية العاجلة بهزمة جبريل عليه السلام ليتدفق النبع الخالد (زمزم) بين رجلي الرضيع المبارك وترتوي منه الأم وصغيرها شراباً طاهراً وغذاء كاملاً يسقي الأرض، ويدر الضرع، وينبت الزرع، بواد غير ذي زرع، وأصبح في المكان الجذر وعالي القدر، وعلامة لبدء تدفق النور الإلهي ووضع أول بيت للناس ليكون لهم مثابة وأمنا ويغسل حوبة نفوسهم ويحررهم من اصفاد الضلال والغفوة ويقودهم لنور الحق وتمام اليقين.
وتقديراً لفضل (زمزم) ومكانتها التي لا ينكرها أحد وما تمتاز به من صفات وخصائص فريدة كغذاء وشفاء لكثير من الأمراض، وتسخير المولى عز وجل للسيدة هاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام لخروجها للنور، فقد أطلق عليها العرب العديد من الأسماء ومنها: بركة، وسيدة، ونافعة، وصافية، وكافية، وعافية، وقالوا عنها أيضاً بأنها: مضنونة، وميمونة ومروية، ومؤنسة، وعونه، وبشرى، وبرة، وعصمة، وسالمة، ومباركة، ومغذية، وطاهرة، وشباعة العيال، وشراب الأبرار، وقرية النمل، ونقرة الغراب، وهزمة إسماعيل، وحفيرة العباس وغيرها من الأسماء.
ولو عدنا لتفاصيل الرواية والحكاية فقد استدعتني (زمزم) التي جاءت من تاريخ التاريخ لأذكر أحد الرجال في عصرنا الحديث الذي كان يراقبها ويطل عليها كل يوم من شرفات داره المجاورة للحرم المكي وارتبط بها بعشق قديم حتى وجد نفسه في وقت لاحق وبتوجيه من المقام الملكي السامي ممن يتولى مسؤولية تنظيفها وتطهيرها ومن ثم تعقيمها باستخدام الأشعة فوق البنفسجية، وكذلك تبريدها وعمل شبكة لتوزيعها داخل الحرم، إنه المهندس الدكتور يحيى حمزة كوشك مدير عام مصلحة المياه والمجاري بالمنطقة الغربية الأسبق رحمه الله الذي وثق ولخص هذه التجربة الفريدة في كتابه النادر (زمزم طعام طعم وشفاء سقم) وقدم فيه للقارئ كل ما يود معرفته عن هذا الماء المبارك وتاريخه والتطورات التي حدثت له على مر العصور.
وعن كتابه هذا يقول رحمه الله: أحببت بئر زمزم منذ نعومة أظفاري واهتممت به كثيراً - وقد أحببت أن أقدمه للناس مقروءاً ومرئياً، فقمت بإصدار كتاب موثق بالصور والمستندات وأيضاً قمت بعمل شريط وثائقي عن بئر زمزم بعدة لغات (العربية والإنجليزية، الأوردو، التركية، الفرنسية، الأندونيسية) وقمت بأبحاث ودراسات تاريخية وهندسية وجيولوجية وأثرية، وكان هدفها إرواء نهم المتشوقين في التزود بالمعرفة عن هذه البئر المقدسة.
إنها زمزم الطعام المستدام في ارض الخير والسلام، التي لازالت تمد المسلمين من الحجاج والمعتمرين وعلى المدى بمائها النفيس في استباق إلى صناعة الحياة واقتسام رغيف البقاء، والتي لم تحظ وطوال القرون الماضية باهتمام وعناية ورعاية كالذي حظيت به من قبل قيادتنا وحكومتنا الرشيدة، وكان لها النصيب الأوفى من المشاريع الضخمة التي أقيمت في الحرمين الشريفين والأماكن المقدسة لخدمة ضيوف الرحمن، ومنذ عهد الملك عبد العزيز غفر الله له مروراً بأبنائه الملوك من بعده حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله- الذي صدرت موافقته عام 1439هـ لاستكمال أعمال بئر زمزم وأعمال تأهيل العبارات حيث تم إنشاء عبارات الخدمات الخاصة بزمزم وعددها خمس عبارات واستكمال المرحلة الأخيرة من تعقيم وإزالة للشوائب وفحص للبيئة المحيطة ببئر زمزم وبإشراف ومتابعة من إدارة سقيا زمزم بالرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي وتقديمه لقاصدي الحرمين الشريفين وفق أعلى المعايير في آلاف الحافظات، بل إن ماء زمزم والمصحف الشريف هما أغلى وأهم هدية تهديها حكومة المملكة للحاج والمعتمر وهو يغادر الأراضي السعودية عائداً إلى بلاده محفوفاً بأطيب الدعوات والتمنيات، إلى جانب أنه تم توفيره محلياً بالمدن السعودية، وتم أيضاً تصديره إلى كافة أنحاء العالم الإسلامي في زجاجات محفوظة ومقاسات مختلفة وبأثمان زهيدة لضمان وصوله إلى يد كل مسلم يتشوق لتذوق طعمه والتضلع بشربه والتبرك به، ولتضيف المملكة إلى ما أسدته للإسلام والمسلمين من جهود وعطاء كبير مفخرة أخرى ودعاء لا ينقطع على لسان كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها، وستبقى زمزم بنت المكان المبجل وكليمة التراب الأصيل.