د.عبدالله بن موسى الطاير
هي صدفة أن يكون ترتيب قناتي فوكس نيوز وسي إن إن خلف بعضهما على الشاشة، ولذلك فإنني لا أتنقّل بين قناتين، وإنما بين أمريكتين متباينتين شديد التباين في الأيديولوجيا والتعصب ونطاق التغطية والأجندة والضيوف. في حين تنشغل فوكس نيوز في أخبارها وبرامجها السياسية بمهاجمة الديموقراطيين، والترويج لأجندة الجمهوريين وبخاصة المحافظون منهم، تنشغل قناة سي إن إن بمحتوى مغاير يشيطن الجمهوريين ويصورهم على أنهم خطر محدق بالممارسة الديموقراطية. إنك تتنقّل بلمسة مفتاح بين عالمين مختلفين، وطرفين متصارعين بلغت حدة الاستقطاب عند كل طرف أوجها.
من الناحية المثالية، فإن الديمقراطية نظام حكم يفترض أنه من الشعب لخدمة الشعب، حيث السلطة منوطة بالمواطنين، الذين يمارسون تلك السلطة من خلال ممثلين منتخبين. المبادئ الأساسية للديمقراطية، مثل الانتخابات الحرة والنزيهة، وحماية الحقوق الفردية، وسيادة القانون، تهدف جميعها إلى ضمان أن الحكومة تعمل بما يحقق المصالح الفضلى للشعب. ومع ذلك، من الناحية العملية، فإن العلاقة بين الديمقراطية والأحزاب السياسية معقدة إلى درجة الانحراف بمسار الديموقراطية من خدمة المواطنين كافة إلى خدمة الحزب ورموزه فحسب.
وإذ تضطلع الأحزاب السياسية بدور حاسم في تنظيم وتعبئة المواطنين، وشرح البرامج السياسية، واختيار المرشحين للمناصب، باعتبارها ضرورية لعمل الديمقراطية، فإنها تشكل أيضًا تحديات حقيقية في وجه مقاصد نظام الحكم الديموقراطي؛ فالمصالح الحزبية تُعطى الأولوية على الصالح العام، مما يؤدي إلى الجمود وحدة الاستقطاب، كما أن سيطرة النخبة تجعل الأحزاب خاضعة لهيمنة المانحين الأثرياء أو أصحاب المصالح الخاصة، مما يقوّض مبدأ التمثيل المتساوي، ومن أبشع الممارسات في الفضاء الديموقراطي قمع المعارضة، إذ تستخدم الأحزاب سلطتها ليس لتهميش الأصوات المعارضة وإنما لتهشيمها، والحد من النقاش السياسي.
أعتقد أن النظام الليبرالي الديموقراطي الذي تم فرضه بعد الحرب العالمية الثانية يتعرض لاختبار صعب ومصيري مع بروز الأحزاب اليمينية بأجنداتها المنغلقة والدينية المتشددة، والعنصرية في أسوأ صورها، وهي بتمكنها تطوي صفحة مهمة في تاريخ الدول الليبرالية الديموقراطية وتعود بالفضاء السياسي إلى الحقب التي ازدهرت فيها الشوفينيات الوطنية، والاستعلاء العرقي والنازية ومعاداة الآخر المختلف.
نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي لم تكن مفاجئة، ولكنها تجاوزت الحد المتوقع بكثير، وهي ليست مستنبتة بالضرورة وإنما مستنسخة عن تجربة أمريكية حكمت بين 2016 إلى 2020م؛ فالأوربيون يعتبرون أن ما يحدث في قارتهم سببه الأفكار العابرة للمحيط، وأنها ستزداد سوءا بفترة ثانية قد يحصل عليها المرشح الجمهوري دونالد ترمب في انتخابات نوفمبر من هذا العام.
أخشى أن مصير العالم يتشكّل على نحو خاطئ وينتقل من السيئ إلى الأسوأ بسبب ضيق الأفق الغربي وعدم انفتاحه على تجارب حكم أخرى يمكن أن تكون بديلاً معقولاً أو حتى شريكاً في التنوّع المقبول لأنظمة الحكم في العالم. الحدية ما بين ديموقراطية وديكتاتورية، الأولى مقبولة والثانية منبوذة، سيعني الإمعان في تكرار التجارب الخاطئة والقاتلة.
ولأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فقد عقمت الدراسات عن تقديم البدائل بالطريقة الأكاديمية التي تتيحها للباحثين والمهتمين، هذا العقم لم يكن طبيعياً وإنما نتيجة بلطجة معرفية غربية حجبت الرأي الآخر وجندت الكتبة والمكتبات ودور البحث ومئات الملايين من العملة الصعبة للإبقاء على الديموقراطية نظاماً لا شريك له للحكم. لنتفق على أن الديموقراطية أنتجت أنظمة حكم رشيدة، فهل يمكن إلى جانب ذلك الاتفاق على أنها أيضاً أنتجت ممارسات سلبية انتقائية هي أشد فتكا من تلك التي تنتجها الدكتاتوريات، ربما هذا الاتفاق يجعل الباحثين يوجهون جهودهم إلى الحكم الرشيد باعتباره غاية تسعى إليها الديموقراطية، كما تسعى إليها أنظمة حكم أخرى ليست بالضرورة ديموقراطية حسب التعريف الغربي.